recent
أخبار ساخنة

### **النبوءة التي تحقق ذاتها: كيف تشكّل معتقداتنا واقعنا؟**

 

### **النبوءة التي تحقق ذاتها: كيف تشكّل معتقداتنا واقعنا؟**

 

"راقب أفكارك لأنها ستصبح كلمات، راقب كلماتك لأنها ستصبح أفعالاً، راقب أفعالك لأنها ستتحول إلى عادات، راقب عاداتك لأنها تكوّن شخصيتك، وراقب شخصيتك لأنها ستحدد مصيرك." هذه المقولة العميقة المنسوبة للفيلسوف الصيني لاوتسو لا تمثل مجرد حكمة روحانية، بل تلامس جوهر مفهوم محوري في العلوم الاجتماعية والسلوكية يُعرف بـ "النبوءة التي تحقق ذاتها" (Self-fulfilling Prophecy). هذا المفهوم يفسر الآلية القوية التي يمكن من خلالها لمعتقد أو توقّع، حتى لو كان خاطئاً في البداية، أن يطلق سلسلة من السلوكيات التي تجعله حقيقة واقعة.

"راقب أفكارك لأنها ستصبح كلمات، راقب كلماتك لأنها ستصبح أفعالاً، راقب أفعالك لأنها ستتحول إلى عادات، راقب عاداتك لأنها تكوّن شخصيتك، وراقب شخصيتك لأنها ستحدد مصيرك." هذه المقولة العميقة المنسوبة للفيلسوف الصيني لاوتسو لا تمثل مجرد حكمة روحانية، بل تلامس جوهر مفهوم محوري في العلوم الاجتماعية والسلوكية يُعرف بـ "النبوءة التي تحقق ذاتها" (Self-fulfilling Prophecy). هذا المفهوم يفسر الآلية القوية التي يمكن من خلالها لمعتقد أو توقّع، حتى لو كان خاطئاً في البداية، أن يطلق سلسلة من السلوكيات التي تجعله حقيقة واقعة.
### **النبوءة التي تحقق ذاتها: كيف تشكّل معتقداتنا واقعنا؟**


### **النبوءة التي تحقق ذاتها: كيف تشكّل معتقداتنا واقعنا؟**


 

**آلية عمل النبوءة من فكرة إلى واقع**

 

صاغ عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون هذا المصطلح في عام 1948، معرّفاً إياه بأنه "تعريف خاطئ للموقف يستدعي سلوكًا جديدًا يجعل المفهوم الخاطئ الأصلي حقيقة". تتلخص الآلية في دورة متكاملة:

 

1.  **ولادة المعتقد:** يبدأ الأمر بتكوين معتقد أو توقّع حول شخص ما أو موقف معين.

2.  **التأثير على السلوك:** يدفع هذا المعتقد صاحبه إلى التصرف بطرق تتوافق معه.

3.  **الاستجابة المستحثة:** يؤثر هذا السلوك بدوره على الشخص أو الموقف المستهدف، ويدفعه إلى الاستجابة بطريقة تؤكد المعتقد الأصلي.

4.  **تأكيد النبوءة:** في النهاية، يصبح التوقع الأولي حقيقة، مما يعزز المعتقد الأصلي ويغلق الدائرة.

 

هذه الدورة يمكن أن تكون إيجابية بناءة، أو سلبية هدامة، وهي تعمل بوعي أو بغير وعي في مختلف جوانب حياتنا.

 

**تجليات النبوءة في ميادين الحياة**

 

تتضح قوة هذا المفهوم في العديد من المجالات، ولعل أبرزها:

 

*   **التعليم وتأثير بيجماليون:** في دراسة شهيرة بعنوان "بيجماليون في الفصل الدراسي"، تم إخبار معلمين بشكل عشوائي أن مجموعة معينة من طلابهم "سينطلقون فكرياً" خلال العام. على الرغم من أن هؤلاء الطلاب تم اختيارهم عشوائياً، إلا أن توقعات المعلمين العالية دفعتهم لمنحهم مزيدًا من الاهتمام والتشجيع والفرص، مما أدى إلى تحقيق هؤلاء الطلاب بالفعل درجات أعلى بكثير من زملائهم بنهاية العام. لقد تحولت نبوءة المعلمين إلى حقيقة.

 

*   **الاقتصاد والأسواق المالية:** قدم ميرتون مثالاً كلاسيكياً حول انهيار بنك بسبب إشاعة. إذا انتشرت شائعة (نبوءة) بأن بنكًا ما على وشك الإفلاس، سيسارع المودعون لسحب أموالهم خوفاً عليها (سلوك)، وهذا السحب الجماعي سيؤدي حتمًا إلى استنزاف سيولة البنك وإفلاسه الفعلي، محققًا بذلك النبوءة التي لم يكن لها أساس من الصحة في البداية.

 

*   **الطب وتأثير الدواء الوهمي (البلاسيبو):** يُعد تأثير البلاسيبو مثالاً صارخاً على نبوءة ذاتية التحقق. عندما يعتقد المريض أن الحبة التي يتناولها فعالة، فإن هذا الاعتقاد وحده يمكن أن يحفز استجابات بيولوجية ونفسية تؤدي إلى تحسن حقيقي في حالته، حتى لو كانت الحبة لا تحتوي على أي مادة فعالة.

 

*   **الديناميكيات الاجتماعية والتهديد النمطي:** يشير "التهديد النمطي" إلى موقف يشعر فيه أفراد مجموعة ما بالقلق من تأكيد صورة نمطية سلبية مرتبطة بمجموعتهم. هذا القلق يستهلك مواردهم الذهنية ويؤثر على أدائهم، مما قد يؤدي بهم إلى تحقيق تلك الصورة النمطية. على سبيل المثال، قد يؤدي القلق من الصورة النمطية القائلة بأن "النساء أقل كفاءة في الرياضيات" إلى أداء أسوأ لدى الطالبات في اختبارات الرياضيات، ليس بسبب نقص القدرة، بل بسبب ضغط النبوءة نفسها.

 

**بين النبوءة الذاتية والخارجية**

 

يمكن تصنيف هذه النبوءات إلى نوعين رئيسيين:

*   **المفروضة ذاتياً:** تنبع من معتقداتنا حول أنفسنا. الشخص الذي يعتقد أنه "فاشل في التحدث أمام الجمهور" سيدخل الموقف متوتراً، مما يجعله يتلعثم وينسى ما يريد قوله، وبالتالي يفشل بالفعل ويؤكد اعتقاده الأولي.

*   **المفروضة من الآخرين:** وهي التي تحركها توقعات الآخرين عنا، مثل تأثير بيجماليون الذي يوضح كيف أن توقعات الآباء والمعلمين والمديرين تؤثر بشكل مباشر على سلوك وأداء من حولهم.

 

في الختام

 إن إدراكنا لمفهوم "النبوءة التي تحقق ذاتها" يمنحنا أداة قوية لتشكيل واقعنا. إنه يدعونا إلى فحص معتقداتنا وتوقعاتنا بجدية، سواء تلك التي نحملها عن أنفسنا أو عن الآخرين. فمن خلال تبني توقعات إيجابية وبناءة، ورفض الصور النمطية السلبية

 يمكننا كسر الحلقات المفرغة وخلق بيئات محفزة للنمو والنجاح. ففي نهاية المطاف، نحن لسنا مجرد ضحايا لظروفنا، بل مهندسون نشطون في بناء واقعنا، بداية من الفكرة التي نختار أن نؤمن بها.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent