**«مهنة سرية» لمحمد بركة: تشريح أزمة الذات في عالم مُعَوْلَم**
تقتحم رواية «مهنة سرية» للكاتب محمد بركة
المشهد الأدبي العربي المعاصر بجرأة لافتة، متجاوزةً بذلك الخطوط الحمراء
التقليدية لتطرح أسئلة وجودية وإنسانية معقدة. الرواية، الصادرة عن دار "أقلام
عربية"، ليست مجرد سرد لقصة شائكة، بل هي بمثابة تشريح نفسي واجتماعي دقيق
لشخصية عالقة في نقطة التقاء ملتبسة بين الشرق والغرب، حيث تتحول الهويات والأجساد
إلى سلع في سوق عالمي لا يرحم.
![]() |
**«مهنة سرية» لمحمد بركة: تشريح أزمة الذات في عالم مُعَوْلَم** |
المفتاح
يكمن مفتاح فهم شخصية البطل "علاء" في مأزقه الوجودي العميق، الذي تعود جذوره إلى صدمة تأسيسية في طفولته. يشير النص ببراعة إلى أن "خطيئته الأصلية" - تواطؤه الصامت مع أمه ضد أبيه - قد حفرت في وعيه ندبة غائرة، وشكلت دافعه النفسي اللاواعي الذي يدفعه نحو مهنته السرية كعامل في مجال الجنس بأجر.
- هذا الفعل التأسيسي يجعله غريبًا عن ذاته قبل أن يصبح غريبًا في عوالم الآخرين، ويتحول جسده إلى
- أداة انفصال عن مشاعره، حيث يؤدي وظيفته بآلية ميكانيكية، "يلقي حمولته بقرار، ويمسكها بقرار"
- في محاولة
للسيطرة على الفوضى الداخلية عبر السيطرة على الجسد.
السرديات الكلاسيكية
على عكس السرديات الكلاسيكية التي تناولت صدام الشرق والغرب، مثل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح التي قامت على فكرة الانتقام الحضاري، أو "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم التي حملت نظرة رومانسية، أو حتى "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس التي عكست الانبهار وجلد الذات، فإن بركة يقدم تفكيكًا لهذا الصدام.
- فالعلاقة هنا لا تحكمها أيديولوجيا الانتقام أو الانبهار، بل منطق السوق النفعي والبراغماتية القاسية.
- علاء ليس "مصطفى سعيد" جديدًا يسعى لغزو الغرب، بل هو نتاج هشاشة اقتصادية ونفسية تجعله
- سلعة قابلة للتداول. من خلال هذه العلاقة التجارية، لا يكتشف "الآخر" الغربي فحسب، بل يكتشف
- أيضًا فراغه الداخلي وتناقضاته، حيث يصبح جسده مسرحًا تُعرَض عليه أزمات الآخرين ورغباتهم
- وأيضًا أزماته هو.
أما على الصعيد الفني، فتتميز الرواية باقتصاد لغوي وسرعة إيقاع لافتة. يعتمد بركة على التكثيف السردي، متجنبًا الاستطرادات الوصفية الطويلة.
- هذا الأسلوب ليس مجرد خيار جمالي، بل هو انعكاس مباشر للحالة النفسية للبطل؛ فالسرعة واللهفة
- في السرد تحاكي حالة الهروب الدائم التي يعيشها علاء، هروبه من ماضيه، ومن واقعه، ومن ذاته.
- ترك تفاصيل الجسد والجنس لخيال القارئ هو قرار فني ذكي، يحول التركيز من الفعل المادي إلى
- أثره النفسي والوجودي، ويجعل القارئ شريكًا في بناء المعنى وتأويل الفراغات التي يتركها النص
- عمدًا.
اسئلة الرواية
في نهاية المطاف، تطرح الرواية سؤالًا جوهريًا: هل يمكن للإنسانية أن تولد من رحم المهانة؟ الإجابة تأتي عبر الحب. وقوع علاء في الحب لا يمثل مجرد نهاية رومانسية، بل هو نقطة التحول التي تعيد له إنسانيته المفقودة، وتجبره على مواجهة ذاته الحقيقية بعيدًا عن قناع "المهنة".
- هذا الحب يصبح فعل تمرد على المنطق السلعي الذي حكم حياته
- ويعلن نهاية وظيفته كآلة وبداية
رحلته نحو التصالح مع الذات.
الختام
لهذا السبب، تبدو الإجابة على سؤال "هل كان
يمكن لغير محمد بركة كتابة هذه الرواية؟" واضحة. إن هذه الاقتحامية في كشف
الزيف الاجتماعي، والربط الجريء بين الجسد والسياسة والاقتصاد، والقدرة على بناء
شخصية روائية مركبة ومأزومة بهذا العمق، هي بصمة خاصة ببركة الذي يبرع في كتابة "رواية
الشخصية" التي تظل أبعد وأعمق من مجرد فكرة عابرة، مقدمًا نصًا شجاعًا يمثل
إضافة نوعية للأدب العربي الحديث.