## أسباب انحراف العلماء عن جادة الحق: نظرة تحليلية عبر التاريخ
يُمثّل العلم في المنظور الحضاري، ولا سيما
الإسلامي، منارة تُبدد ظلمات الجهل، وسراجًا يهدي السالكين إلى دروب الحق واليقين.
ويحتل العلماء، بوصفهم ورثة الأنبياء وحملة هذا النور، مكانة سامية ومنزلة رفيعة
في وجدان الأمة، فهم المرجع في فهم النصوص، والموئل في تفسير الأحكام، والحصن في
الذود عن العقيدة. غير أن مسيرة التاريخ، بكل ما تحمله من دروس وعبر، تكشف عن
حقيقة مقلقة ومؤلمة: حقيقة انحراف بعض من تصدّروا للتعليم والإرشاد عن المسار
القويم الذي ائتُمنوا عليه. فما هي يا ترى تلك العوامل والأسباب التي قد تُزيغ
بقدم العالم بعد ثبوتها، وتُضلّ بصيرته بعد استنارتها؟
.jpeg)
إن ظاهرة انحراف العلماء ليست وليدة عصر دون
عصر، بل هي إشكالية ممتدة الجذور، تتعدد أبعادها وتتشابك خيوطها. وهي أشد خطورة
وأعمق أثرًا من ضلال العامة، ذلك أن العالم يمتلك سلطة معرفية ورمزية، وكلمته
مسموعة، ورأيه مُعتبر. فإذا ما انحرفت بوصلته، فإن أثر انحرافه قد يمتد ليشمل
أتباعه ومريديه، محدثًا شرخًا في الوعي الجمعي، وبابًا للفتنة والاضطراب. إن
استجلاء أسباب هذا الانحراف يُعد ضرورة معرفية ومنهجية، ليس للتشفي أو التجريح، بل
للفهم والاعتبار وصيانة المسيرة العلمية والدعوية.
انحراف العلماء
**أولاً: العوامل الذاتية والنفسية:**
يأتي في مقدمتها **اتباع الهوى**؛ فالنفس
البشرية، وإن تزينت بالعلم، تظل عرضة للأهواء والشهوات الخفية. قد يتجلى الهوى في
حب الظهور والرياسة، أو الرغبة في نيل الحظوة والمكانة، أو التعصب للرأي الشخصي
حدّ رفض الحق إذا جاء من مخالف. وقد يقود **الكبر والعُجب** بالعلم صاحبه إلى
احتقار الآخرين وردّ نصحهم، والشعور بالاستغناء عن المراجعة والنقد الذاتي، فيرى
نفسه معصومًا من الخطأ، مؤهلاً للخوض فيما لا يحسن دون تثبت. كما يلعب **ضعف
الجانب التعبدي والروحي** دورًا هامًا؛ فالعلم الذي لا يثمر خشية وتقوى، ولا يقترن
بصدق وإخلاص، يصبح حجابًا كثيفًا يحول بين صاحبه وبين رؤية الحق، وقد يتحول إلى
مجرد وسيلة لتحقيق مآرب دنيوية زائلة، مما يُضعف مناعته أمام الإغراءات والضغوط.
**ثانياً: العوامل المنهجية والمعرفية:**
قد ينشأ الانحراف عن **خلل في المنهجية العلمية**
المتبعة. يتمثل ذلك أحيانًا في **التأويل المتعسف للنصوص**، وليّ أعناقها لتوافق
أهواء مسبقة أو أفكارًا دخيلة، بدلًا من الاستسلام لدلالاتها الواضحة وقواعدها
المعتبرة. وقد يكون السبب **القصور المعرفي** في بعض الجوانب الضرورية، كعلوم
الآلة (اللغة، الأصول، المنطق) أو عدم الإحاطة الكافية بواقع المسألة وتاريخها
وملابساتها، مما يؤدي إلى إصدار أحكام متسرعة أو فتاوى مجانبة للصواب. كما يُعد **التعصب
المذهبي أو الفكري** سببًا جوهريًا؛ حيث يرى العالم المتعصب الحق محصورًا في دائرة
مذهبه أو شيخه، فيردّ كل ما خالفه ولو كان مدعومًا بالدليل، وقد يدفعه تعصبه إلى
تحريف الحقائق أو بتر النصوص لخدمة موقفه.
.jpeg)
**ثالثاً: العوامل الخارجية والبيئية:**
تلعب البيئة المحيطة بالعالم دورًا لا يُستهان
به. فـ**الضغوط السياسية** و**تسلط الحكام** قد يدفعان بعض العلماء، إما طمعًا في
القرب والمناصب أو خوفًا من البطش والتنكيل، إلى تزيين الباطل للحاكم، أو إصدار
فتاوى تخدم مصالحه ولو خالفت صريح الشرع. وهذا ما يُعرف بـ"علماء السلطان"،
الذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً. كذلك، قد تؤثر **الضغوط المجتمعية** و**الصراعات
الفكرية أو المذهبية الحادة** على استقلالية العالم وموضوعيته، فيجد نفسه منجرفًا
في تيار الصراع، مدافعًا عن طائفته أو فكرته بحق وبباطل، متأثرًا بالشائعات والأجواء
المشحونة بدلًا من الاحتكام إلى ميزان العلم والعدل. وأخيرًا، فإن **غياب البيئة
العلمية الصحية** التي تشجع على النقد البنّاء والحوار المفتوح، وتُعلي من شأن
الدليل على حساب الأشخاص، قد يساهم في ترسيخ الأخطاء والانحرافات لغياب آلية
التصويب والمراجعة.
**خاتمة**
إن انحراف العالم عن جادة الحق ليس مجرد سقطة فردية، بل هو إنذار بخطر يهدد الأمة في دينها وفكرها ووحدتها.
وهو ليس ناتجًا عن سبب واحد منفرد، بل هو غالبًا محصلة لتفاعل معقد بين عوامل ذاتية ونفسية، ومنهجية ومعرفية، وخارجية وبيئية. وفهم هذه الأسباب مجتمعة هو الخطوة الأولى نحو التحصين والوقاية. يتطلب الأمر من العلماء أنفسهم مجاهدة دائمة للنفس، وتجديدًا للإخلاص.
وتعميقًا للصلة بالله، والتزامًا صارمًا بأدوات المنهج العلمي الرصين، وشجاعة في
قول الحق، وتواضعًا في قبوله ولو جاء من مخالف. كما يتطلب من المجتمع العلمي والأمة
عمومًا توفير بيئة صحية تقدر العلم وتحترم أهله، وتشجع على النقد الموضوعي، وتنبذ
التعصب والغلو، وتحول دون استغلال الدين والعلم لأغراض سياسية أو دنيوية. فبذلك
وحده، يمكن الحفاظ على منارة العلم مضيئة، وهادية إلى سبيل الرشاد. والله من وراء
القصد، وهو يهدي السبيل.
الكتاب تأليف/ فضيلة الشيخ حذيفة بن حسين
القحطانى
.jpeg)