## رواية "القطار المميز": رحلة نحو أغوار النفس والوجود
**بقلم: محمود نورالدين**
**(كل شيء يتجه نحو النهاية)**
تنطلق رواية "القطار المميز" للكاتب
محمود نورالدين من عتبة وجودية قاتمة، مُعلنةً منذ البداية، عبر عنوانها الفرعي
الصريح "(كل شيء يتجه نحو النهاية)"، عن طبيعة الرحلة التي سيخوضها
القارئ. إنها ليست مجرد رحلة عبر قضبان ومحطات، بل غوصٌ عميق في أغوار النفس البشرية
المعذبة، وتأملٌ مرير في حتمية المصير وطبيعة الزمن المتسرب.
![]() |
## رواية "القطار المميز": رحلة نحو أغوار النفس والوجود |
البداية
حالةٌ أشبه بالموت قبل الأوان: "سكنتُ قبرًا قبل الرحيل". هذه العبارة الصادمة لا تصف مكانًا ماديًا بقدر ما تصف حالة شعورية ونفسية، فضاءً داخليًا مُظلمًا حيث تتلاشى الحدود بين الحياة والموت، وبين الحاضر والماضي المُثقل. تتجسد هذه الأجواء الثقيلة عبر حاسة الشم، حيث "رائحة العجوز تملأ الأرجاء"،
- وهي رائحة لا تشير فقط إلى وجود شخصية أخرى (ربما غائبة الآن)
- بل ترمز أيضًا إلى القدم، البلى، والذكريات التي أصبحت عبئًا لا يُطاق
- عبق الماضي الذي يرفض أن يتبدد.
القبر الرمزى
وتحديدًا "صوت صرير العجلات وهي تسير على القضبان". هذا الصوت ليس مجرد ضجيج خلفية، بل هو الشخصية الصامتة الأكثر حضورًا، الشاهد الأبدي والراوي البديل بعد رحيل "العجوز". إنه "الصوت الوحيد الذي يستطيع أن يروي القصص".
- قصص الرحلات التي لا تنتهي، قصص أولئك الذين مضوا في دروب الحياة كقطاراتٍ مسرعة،
- "ولم يبالوا لمن فقدوه خلفهم".
- يصبح صرير العجلات لحنًا جنائزيًا للحياة، ترنيمة مستمرة للفقد والرحيل
- وصوت الزمن الذي يسحق كل شيء في
مساره الحتمي نحو النهاية المعلنة.
شعور الراوى
"أشعر أنني علقت في غيابات الجب". هو يوسفٌ
آخر، لكن بئره ليست مجرد حفرة في الأرض، بل هي هوة سحيقة في الروح، فخٌ زمنيٌّ لا
قرار له. "ومَرَّ العمر، ولم تأتي السيارة بعد". انتظار الخلاص، انتظار "السيارة"
(المنقذ، التغيير، الهروب)، يتحول إلى انتظارٍ عبثي يمتد على مدى عمرٍ ضائع. الزمن
هنا ليس خطيًا تقدميًا، بل هو دائرة مغلقة من الانتظار والترقب الذي لا يُفضي إلى
شيء.
- تتخلل هذا السكون المطبق لحظات من الهلع الليلي غير المبرر: "أستيقظ كان يوم في هذا الوقت من
- الليل فَزِعًا بلا سبب". إنه قلق الوجود الخالص، الفزع من الفراغ، من الظلمة التي لا تحيط بالمكان
- فحسب، بل تتغلغل في ثنايا الروح. العقل بدوره ليس ملاذًا للتفكير المنظم، بل ساحة معركة مزدحمة:
- "عقلي مزدحم كالناس أمام شباك التذاكر". صورة شباك التذاكر تكثف الشعور باليأس، التزاحم على
- فرصة للرحيل أو النجاة قد لا تأتي أبدًا، فوضى الأفكار والذكريات والهواجس التي تتصارع بحثًا عن
- مخرج.
أزمة الراوى
تتفاقم أزمة الراوي مع فقدانه للإحساس بالزمن: "لا أدري كم مر علي هنا في الظلمة المحيطة بكل شيء".
في هذا الفضاء المعلق خارج حسابات الوقت المعتادة، يصبح السؤال عن مرور الزمن سؤالًا فلسفيًا وجوديًا: "من يدري كيف يمر الزمان على الساكنين هنا؟". إنهم سكان العدم، سجناء لحظة أبدية من الظلام والانتظار. غياب الشمس ليس مجرد حدث فلكي.
- بل هو انطفاء للنور الداخلي، لحظة التحول الحاسمة التي هوى بعدها الراوي في هذا الظلام الدامس:
- "غابت الشمس منذ ذلك اليوم الذي غبت فيه". غيابه عن العالم الخارجي، أو ربما غيابه عن ذاته
- الحقيقية، هو الحدث المؤسس لهذه الحالة من السجن
الاختياري أو القسري.
الختام
"القطار المميز" إذن، ليست مجرد رواية عن قطار، بل هي استعارة كبرى للحياة نفسها، رحلة محفوفة بالضجيج (صرير العجلات)، الذكريات (رائحة العجوز)، الانتظار العقيم (غياب السيارة)، والقلق الوجودي (الفزع الليلي). إنها دعوة للتأمل في معنى الزمن، الفقد، والرحلة الحتمية نحو نهاية كل الأشياء.
حيث يبقى صدى صرير العجلات يتردد حتى بعد توقف كل شيء، كشاهد أبدي على ما
كان، وما لم يعد. محمود نورالدين، من خلال هذه الشذرات المكثفة، يبني عالمًا
روائيًا مشحونًا بالرمزية، ويطرح أسئلة أعمق حول حالة الإنسان المعاصر في مواجهة
مصيره المحتوم.
.jpeg)