**الهوس بالأرقام والرموز: حين يتحول العشوائي إلى رسالة ذات مغزى**
يميل العقل البشري بطبيعته إلى البحث عن الأنماط
والمعنى في خضم الفوضى الظاهرية للوجود. هذا الميل الفطري، الذي مكّن أسلافنا من
استشفاف الخطر في حفيف أوراق الشجر أو تمييز وجه صديق من بعيد، يتجلى اليوم في صور
أكثر تعقيدًا، أبرزها الانبهار بالأرقام والرموز وتفسير المصادفات العشوائية
كرسائل كونية مشفرة أو إشارات ذات مغزى عميق. يُعرف هذا الميل في علم النفس
والإدراك بمصطلح "الأبوبينيا" (Apophenia)، وهو القدرة على رؤية روابط وأنماط في
بيانات عشوائية لا ترابط بينها. وعندما يتخذ هذا التفسير شكلاً بصرياً محدداً،
كرؤية وجه مألوف في السحاب أو على قطعة خبز محمص، يُشار إليه بـ "الباريدوليا" (Pareidolia).
![]() |
**الهوس بالأرقام والرموز: حين يتحول العشوائي إلى رسالة ذات مغزى** |
تتعدد صور هذا الهوس في حياتنا اليومية؛ من
اختيار تواريخ مميزة للأحداث الهامة كالزواج بناءً على تناسق أرقامها، إلى التشبث
بأرقام يانصيب محددة لعقود، أو الشعور بأن تكرار رؤية رقم معين (مثل 11:11) يحمل
رسالة شخصية. يمتد الأمر ليشمل تفسير الأشكال في الغيوم، أو شقوق الجدران، أو حتى
خطوط فنجان القهوة. بل إن أحداثًا عالمية كبرى، مثل أحداث 11 سبتمبر، خضعت
لتأويلات رقمية تربط بين تاريخ الحدث (9/11) والشكل البصري للبرجين (كرقم 11)،
معتبرين ذلك دلالة مشؤومة تتجاوز المصادفة البحتة.
منظور علمى
على الرغم من أنه قد يزداد وضوحًا لدى الأفراد الذين يعانون من
حالات معينة كالفصام. يفسر علماء النفس والأعصاب هذه الظاهرة بأنها نتاج لحاجة
دماغية أساسية لتنظيم العالم وفهمه. فقدرتنا على التعرف على الأنماط، خاصة الوجوه (والتي
ترتبط بمنطقة "التلم القفوي الصدغي" في الدماغ)، كانت ميزة تطورية حاسمة
للبقاء. وفي عالمنا المعاصر، يبدو أن هذه الآلية امتدت لتبحث عن المعنى والنظام
حتى في غياب وجودهما الحقيقي.
- لم يقتصر هذا الانبهار بالأنماط الخفية على عامة الناس، بل شكل مصدر إلهام وحيرة للعديد من
- العقول اللامعة عبر التاريخ. عالم الفيزياء والمخترع نيكولا تسلا كان مهووسًا بالأرقام 3، 6، و9،
- معتبرًا إياها مفاتيح للطاقة الكونية. ليوناردو دافنشي، الفنان والعالم الموسوعي، رأى في "النسبة
- الذهبية" (فاي ≈ 1.618) توقيعًا إلهيًا يتكرر في الطبيعة والفن، بما في ذلك لوحته الشهيرة
- الموناليزا. الفيلسوف أبو حامد الغزالي استدل بانتظام الأشكال في الكون على وحدانية الخالق. أما
- عالم النفس الشهير كارل يونغ، فقد صاغ مصطلح "التزامن" (Synchronicity) لوصف
- المصادفات ذات المغزى الشخصي العميق، معتبرًا إياها جسرًا بين العقل الباطن والكون، ونافذة على
- اللاوعي الجمعي.
التراث
فقصص تفسير الأحلام كما في قصة النبي يوسف، أو التجليات الإلهية كما في رؤية النبي موسى للنار، ورؤى المتصوفة كابن عربي لمعاني باطنية في الحروف والأعداد، كلها تعكس هذا البحث الإنساني الدائم عن المعنى فيما وراء الظاهر. حتى في الأدب، نجد أمثلة كتشاؤم الشاعر ابن الرومي وتفسيره للإشارات العابرة.
- وفي الفن الحديث، استثمر فنانون كسلفادور دالي الباريدوليا ببراعة
- فملأ لوحاته بأشكال
ووجوه خفية تتحدى الإدراك المباشر.
الختام
في نهاية المطاف، يمثل هذا الهوس بالأرقام
والرموز، وهذا البحث الدؤوب عن رسائل في طيات العشوائية، جانبًا أصيلًا من الإدراك
البشري. إنه يعكس رغبتنا العميقة في إيجاد النظام والمعنى والارتباط في عالم قد
يبدو أحيانًا مربكًا وغير مفهوم. هو الصدى المعاصر لغريزة البقاء التي دفعت
أسلافنا لربط النقاط، والتي تدفعنا اليوم لمحاولة فك شيفرات الوجود، محولين
المصادفة البحتة إلى حوار محتمل مع الكون.
.jpeg)