**«قلعة الملح» لثائر الناشف: صرخة الاغتراب وصراع الوجود في فيينا الباردة**
في مشهد الرواية العربية المعاصرة، الذي يتسم
بزخم تجاربه وتنوع قضاياه، يبرز اسم الروائي السوري ثائر الناشف مجدداً، حاملاً
معه هذه المرة روايته الجديدة «قلعة الملح». يأتي هذا العمل بعد تجربته اللافتة في
«ثلاثية المسغبة»، التي أرّخت بجرأة فنية وعمق إنساني لجراح الثورة السورية
وتداعياتها المأساوية.
![]() |
**«قلعة الملح» لثائر الناشف: صرخة الاغتراب وصراع الوجود في فيينا الباردة** |
لكن «قلعة الملح» تمثل تحولاً
دقيقاً ومنعطفاً مهماً في مسيرة الناشف الإبداعية؛ إذ ينتقل من فضاءات التوثيق
المباشر نسبيًا للحدث السوري الدامي، إلى استكشاف أغوار النفس البشرية في منافيها
القسرية والاختيارية، متخذاً من العاصمة النمساوية، فيينا، مسرحاً لأحداث تتشابك
فيها أقدار شخصيات هاربة من ماضٍ مؤلم، وتائهة في حاضرٍ لا يمنحها سوى أدوارٍ
هامشية وشعورٍ مزمن بالاغتراب.
**بين حنين الوطن وواقع المنفى حكاية "سامي" المحورية**
.jpeg)
المدينة التي تجمع بين سحر التاريخ وبرودة الحاضر. يعمل سامي مساعداً اجتماعياً، وهو دور يضعه في تماس مباشر مع الهشاشة الإنسانية في أكثر صورها تجلياً: الشيخوخة، المرض، الوحدة، والحاجة. مهنته هذه، التي تقتضي التنقل بين منازل المسنين والمحتاجين، ليست مجرد وظيفة لكسب العيش، بل هي نافذة يطل منها على عوالم متعددة من المعاناة.
- وفي الوقت نفسه، مرآة تعكس تمزقه الداخلي. يعيش سامي صراعاً مريراً بين حنينه الجارف إلى
- وطنه الذي تنهشه الحرب وتتناثر ذكرياته بين ركام المدن، وبين محاولاته اليائسة للاندماج في
- مجتمع أوروبي يبدو منظماً ومستقراً، ولكنه في جوهره يظل عصياً على الاختراق، مجتمعاً يمنحه
- الأمان المادي
لكنه يسلبه الشعور بالانتماء الحقيقي، ويحصره في خانة "الآخر" القادم من
بعيد.
**شخصيات على حافة الذاكرة والزمن**
.jpeg)
لا تقتصر الرواية على سرد حكاية سامي الفردية، بل تتسع دائرتها لتشمل مجموعة من الشخصيات التي تشاركه، وإن بأشكال مختلفة، الإحساس بالضياع والوحدة. من أبرز هذه الشخصيات:
1. **الدكتور
غولد شتاينر:** الطبيب النفسي الألماني المسنّ، الذي يمثل صراع الإنسان مع الزمن
ووطأة المرض. تجاربه السابقة، ربما المرتبطة بذاكرة الحرب الأوروبية، تتداخل مع
حاضره المعزول، ليصبح رمزاً للذاكرة المثقلة والعقل الذي يقاوم الانهيار أمام
حتمية الفناء. علاقته بسامي قد تتجاوز علاقة المحتاج بالمُساعِد، لتصبح حواراً
صامتاً أو معلناً بين جيلين وثقافتين، كلاهما يحمل ندوبه الخاصة.
2. **جيرترود:**
زوجة الدكتور غولد شتاينر، التي تكافح للحفاظ على توازن هش في حياتها وحياة زوجها
المريض. تمثل جيرترود محاولة الصمود أمام التحديات، والسعي الدؤوب لإيجاد معنى أو
نظام وسط فوضى المعاناة، لكنها هي الأخرى تبدو محاصرة في قلعتها الخاصة من
الالتزامات والقلق.
3. **السيدة
كورتس:** العجوز الثرية التي تقضي أيامها الأخيرة في وحدة قاتلة، محاطة بأطلال
ماضٍ مترف لم يعد يعني شيئاً في مواجهة الفراغ الوجودي. تجسد شخصيتها عبثية الحياة
حين تفقد غايتها، وتطرح تساؤلاً حول قيمة الثروة والمكانة الاجتماعية عندما يغيب
التواصل الإنساني الحقيقي والدفء.
هذه الشخصيات، بما تحمله من أوجاع خاصة وتجارب
مريرة، لا تعمل فقط كمحركات للسرد، بل كرموز حية تسلط الضوء على قضايا إنسانية
كبرى تتجاوز حدود الزمان والمكان: الهوية المتصدعة، الحنين كجرح لا يندمل، الحب
المفقود أو المتعذر، وصراع الإنسان الأزلي مع ذاته، مع ذاكرته، ومع الزمن الذي
يمضي بلا هوادة.
**"قلعة الملح" رمزية المكان ودلالات الاغتراب**
.jpeg)
قد يشير الملح إلى ما يبقى بعد تبخر الماء، أي الذكريات الجافة أو الجوهر
المؤلم الذي يترسب بعد زوال السياقات الحياتية. وقد تكون القلعة رمزاً للعزلة،
للحصن الذي تبنيه كل شخصية حول نفسها، سواء كان حصناً مادياً كشقة فاخرة للسيدة
كورتس، أو حصناً نفسياً كذاكرة الدكتور غولد شتاينر، أو حتى حصناً ثقافياً كالغربة
التي يعيشها سامي. فيينا، بجمالها الباروكي الصارم وشوارعها التي شهدت أحداثاً
تاريخية كبرى، تتحول في الرواية من مجرد مسرح للأحداث إلى رمز مكثف للاغتراب
الحديث؛ مدينة تضج بالحياة الظاهرية، لكنها في عمقها قد تكون مكاناً للعزلة
القاتلة، حيث يعيش الأفراد متجاورين لكن منفصلين، كلٌ في "قلعته" الخاصة.
- يستخدم الناشف أيضاً رموزاً أخرى لتعميق الدلالات: المصعد الذي يتوقف قد يكون استعارة للحظات
- التعثر والانقطاع في مسيرة الحياة، أو للمفاصل الحرجة التي تواجه الشخصيات. النظرة إلى الصور
- الفوتوغرافية تستدعي طقوس الحنين ومحاولات استعادة الذات أو ترميم الذاكرة المبعثرة. أما
- الأمراض التي يعاني منها المسنون، فهي ليست مجرد تفاصيل واقعية، بل رموز لهشاشة الكائن
- البشري وحتمية الدورة الطبيعية للحياة والموت.
**نقلة نوعية في الأسلوب وتقنيات السرد**
.jpeg)
فبينما اتسمت «ثلاثية المسغبة» بواقعيتها المباشرة
وتوثيقها الصادم أحياناً للحدث السوري، تتجه هذه الرواية نحو استبطان أعمق للنفس
البشرية. يبرع الناشف في توظيف تقنيات سردية متنوعة تمزج بين السرد الموضوعي
والغوص في التيارات الداخلية للشخصيات. الحوارات في الرواية تتجاوز وظيفتها
التقليدية في تطوير الحبكة، لتصبح منابر للتأمل الفلسفي وطرح الأسئلة الوجودية
الكبرى حول الهوية، معنى الحياة، والوجود في عالم متغير وقاسٍ.
- كما يوظف الكاتب عناصر من المذكرة الشخصية، والسيرة الذاتية المتخيلة، والتلميحات التاريخية
- ليخلق نسيجاً روائياً غنياً ومتعدد الطبقات. التداخل المدروس بين الماضي والحاضر يضفي بعداً
- ديناميكياً على النص، ويجعل الزمن ليس مجرد إطار، بل عنصراً فاعلاً ومحورياً في بناء السرد
- وتشكيل مصائر الشخصيات. اللغة الروائية تتسم بالجزالة والقدرة على التقاط التفاصيل الدقيقة
- وتحويلها إلى صور شعرية وأدبية مكثفة تعكس تناقضات البشر وهشاشتهم.
**البعد الوجودي وتساؤلات الانتماء**

تتبنى الرواية بوضوح توجهاً وجودياً، حيث تعيش كل شخصية صراعها الخاص مع الأسئلة الكبرى التي لا مفر منها.
سامي يبحث عن معنى
لحياته في ظل غربة مزدوجة: الغربة عن الوطن والغربة عن الذات في مجتمع جديد. الدكتور
شتاينر يتأمل هشاشة الإنسان أمام سطوة الزمن وحتمية النهاية. السيدة كورتس تجسد
عبثية الحياة حين تصبح مجرد انتظار للموت في فراغ مترف. هذه الصراعات الفردية
تتضافر لتشكل صرخة جماعية حول مكان الإنسان في عالم يبدو أحياناً بلا معنى، وتدعوة
للقارئ إلى إعادة التفكير في مفاهيم الهوية، الغربة، والانتماء في عصر الشتات والهجرات
والتحولات الكبرى.
**توازن دقيق بين السرد والتأمل**
قد يرى بعض القراء أن التركيز المكثف على الحوارات الفلسفية والتأملات الداخلية يأتي أحياناً على حساب إيقاع السرد التقليدي.
بالفعل، تحاول الرواية أن تجد معادلة توازن دقيقة بين عمق التأمل الفكري ومتطلبات
الحكاية الروائية، وهي مهمة شاقة يتفاوت تقييم نجاحها بين قارئ وآخر. لكن هذا
الجانب لا ينتقص من القيمة الجوهرية للعمل، الذي يظل وثيقة أدبية وإنسانية عميقة،
تقدم رؤية شاملة لصراعات الإنسان الداخلية والخارجية في مواجهة عالم معقد.
**خاتمة شهادة إبداعية على أدب المنفى والوجود**
.jpeg)
في الختام، تمثل رواية «قلعة الملح» لثائر الناشف إضافة قيمة للمكتبة العربية، وخصوصاً لأدب المهجر أو أدب المنفى الذي بات يشكل رافداً مهماً في الرواية العربية المعاصرة.
إنها ليست مجرد قصة عن لاجئ سوري
في أوروبا، بل هي استكشاف فني وفلسفي لحالة الاغتراب الإنساني بمعناها الأوسع. يثبت
الناشف مجدداً قدرته على تطويع أدواته السردية لمعالجة قضايا مركبة، مقدماً عملاً
يجمع بين مرارة المأساة وجماليات اللغة والفن، ويترك في نفس القارئ أثراً عميقاً
وتساؤلات ملحة حول معنى أن تكون إنساناً في هذا العالم. إنها رواية تُقرأ وتُعاش
وتُتَأمل، لتؤكد أن الأدب الرفيع لا يزال قادراً على ملامسة أعمق أوتار الوجود
الإنساني.
اسئلة واجوبة
.jpeg)
.jpeg)