**مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي: قراءة في "الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني"**
في عالم تتسارع في وتيرة التغيرات وتتعقد فيه شبكة العلاقات الإنسانية، تبرز الحاجة الملحة إلى فهم
أعمق لجذور السلوك البشري ودوافعه الخفية والظاهرة. وفي هذا السياق، يمثل صدور
الترجمة العربية لكتاب "الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني" للفيلسوف
والمربي وعالم النفس الأميركي البارز جون ديوي (1859-1952) عن دار "أقلام
عربية" بالقاهرة، حدثاً ثقافياً وفكرياً مهماً. يقدم هذا العمل، الذي نقله
إلى العربية الدكتور محمد لبيب النجيحي، رؤية ثاقبة وتحليلية معمقة لأحد أكثر
المواضيع إلحاحاً وتعقيداً، مستنداً إلى الأسس التي أرساها ديوي كأحد أبرز مؤسسي
الفلسفة البراغماتية، تلك المدرسة الفكرية التي تقيس قيمة الأفكار والمفاهيم بمدى
فعاليتها وتأثيرها العملي في الواقع المعاش.
![]() |
**مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي: قراءة في "الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني"** |
**مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي: قراءة في "الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني"**
**جون ديوي مسيرة فكرية حافلة بالعطاء**
.jpeg)
الذي لم يكن مجرد فيلسوف نظري،
بل مفكراً ومربياً انخرط بعمق في قضايا عصره وسعى لتطبيق أفكاره على أرض الواقع. وكما
يشير المترجم في مقدمته، فإن مسيرة ديوي تميزت بالنبوغ المبكر؛ حيث التحق بالجامعة
في سن الخامسة عشرة، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة "جونز هوبكنز"
المرموقة وهو في الخامسة والعشرين من عمره. لم تكن مسيرته الأكاديمية مجرد تنقل
بين الجامعات (ميشيغان، شيكاغو، كولومبيا)، بل كانت رحلة مستمرة من البحث والتجريب
والتأسيس.
- تتجلى بصمة ديوي الأكثر تأثيراً في ميدان التربية؛ ففي جامعة شيكاغو، لم يكتفِ برئاسة قسم الفلسفة
- وعلم النفس والتربية، بل أطلق شرارة "التربية التقدمية"، وهي ثورة حقيقية في المفاهيم التربوية
- آنذاك. لم تكن نظرياته مجرد أفكار مجردة، بل سعى لتجسيدها عبر إنشاء مدرسة تجريبية أثبتت
- جدوى أفكاره العملية، وإن واجهت مقاومة من المؤسسة الجامعية التقليدية، مما اضطره للانتقال إلى
- جامعة كولومبيا، التي أصبحت معقلاً
لأفكاره حتى تقاعده.
لم ينعزل ديوي في برجه
العاجي الأكاديمي، بل ظل ناشطاً في الشأن العام، مساهماً في تأسيس منظمات مؤثرة
مثل "اتحاد الحريات المدنية للأميركيين" وجمعية "أساتذة الجامعات
الأميركيين"، ومنخرطاً في قضايا المعلمين، مما يعكس التزامه العميق بالبعد
العملي والاجتماعي للفكر. هذه الخلفية الثرية تجمع بين العمق الفلسفي والخبرة
التربوية والانشغال الاجتماعي، وتشكل الإطار الذي انبثقت منه أفكاره في كتاب "الطبيعة
البشرية والسلوك الإنساني".
**"الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني" ثورة في فهم الذات والمجتمع**
.jpeg)
يعد الكتاب بمنزلة ثورة شاملة، ليس فقط في مجال علم النفس أو التربية، بل في صميم الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية.
ينطلق ديوي من فرضية أساسية مفادها أن أي تفسير سليم للسلوك الإنساني
لا يمكن أن يكتمل إلا بفهم الطبيعة الإنسانية من جهة، وإدراك الدور الحاسم للعوامل
الاجتماعية والبيئية التي تتفاعل مع هذه الطبيعة لتشكيل السلوك من جهة أخرى.
- بهذا المنطلق، يشرع ديوي في تفكيك الثنائيات التقليدية التي طالما هيمنت على الفكر الغربي، والتي
- فصلت بين الذات والموضوع، الفرد والمجتمع، الطبيعة والبيئة، الدوافع والأفعال. يرى ديوي أن هذه
- الانقسامات أدت إلى تصورات مشوهة، خاصة في الميدان الأخلاقي. ففكرة أن الأخلاق شأن ذاتي
- بحت، وأن الفضائل والرذائل هي ملكيات فردية خالصة، تتجاهل، بحسب ديوي، الحقيقة الجوهرية
- المتمثلة في أن الإنسان كائن يتشكل ويتفاعل ضمن بيئة طبيعية
واجتماعية محددة.
**دور البيئة والعادات إعادة تعريف للسلوك والأخلاق**
.jpeg)
يضع ديوي البيئة المحيطة بالفرد في قلب تحليله للسلوك. فالعادات، التي تشكل جزءاً كبيراً من سلوكنا اليومي،
ليست مجرد استجابات آلية تنبع من داخل الفرد، بل هي نتاج تفاعل ديناميكي
مستمر بين الكائن الحي وبيئته. لا يمكن تصور تكوين عادة، سواء كانت حسنة أم سيئة،
بمعزل عن السياق البيئي الذي تنشأ فيه. هذا التفاعل يشمل البيئة المادية، وكذلك
الأعراف الاجتماعية، التوقعات الثقافية، والمؤسسات القائمة.
- وبناءً على ذلك، يقدم ديوي فهماً جديداً للفضائل والرذائل. فهي ليست سمات مجردة أو قوى داخلية
- منفصلة عن العالم الخارجي، بل هي "أنواع من التكيف الواقعي" لقدرات الفرد وإمكاناته مع القوى
- البيئية المحيطة به. فالشجاعة ليست مجرد صفة كامنة، بل هي طريقة تكيف وسلوك تظهر في
- مواجهة ظروف معينة تتطلب المجابهة. وكذلك الجبن أو الكرم أو البخل، هي أنماط سلوكية تشكلت
- عبر تفاعل الفرد مع بيئته وتحدياتها وفرصها.
هذا الفهم يقوض فكرة "الحياد الأخلاقي" التي قد يتصورها البعض. يتساءل ديوي بحدة: هل يمكن للفرد أن يعزل ذاته عن الشر المحيط به بمجرد عدم الاكتراث أو الانسحاب؟
هل يمكن الحفاظ على "ضمير
نقي" بالابتعاد عن مواطن الزلل دون محاولة تغييرها؟ إجابات ديوي تأتي بالنفي
القاطع. فالحياد، في منظوره، هو موقف سلبي يخدم الوضع القائم، وإهمال الشر هو شكل
من أشكال الترويج غير المباشر له. إن الأخلاق، بهذا المعنى، ليست شأناً فردياً
منعزلاً، بل هي مسؤولية اجتماعية تتطلب الانخراط والتأثير والتغيير.
**نحو علم نفس تربوي اجتماعي متكامل**
.jpeg)
علم
نفس لا يرى الفرد كجزيرة منعزلة تحركها دوافع غامضة، بل ككائن نشط يتفاعل ويتعلم
ويتكيف ضمن سياق اجتماعي معقد. الهدف من هذا العلم النفسي الجديد هو تحرير الفرد،
ليس عبر تجاهل القيود والضغوط الاجتماعية، بل عبر فهمها وتوظيف الذكاء والتفكير
النقدي للتنقل بوعي وفعالية في ميادين العلاقات الإنسانية المتشابكة.
- إن التركيز على الذكاء والتفكير كأدوات للتحرر والتكيف الواعي هو سمة أساسية في فكر ديوي
- البراغماتي. فبدلاً من الكبت أو الحرمان أو الاستسلام للضغوط، يدعو ديوي إلى استخدام القدرات
- العقلية لفهم ديناميكيات السلوك الفردي والاجتماعي، ومن ثم توجيه هذا السلوك نحو غايات بناءة
- تحقق النمو الفردي والصالح الاجتماعي.
**أهمية الكتاب اليوم**

في
زمن الاستقطاب وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة انتشار المعلومات المضللة،
تصبح دعوة ديوي لفهم التفاعل بين الطبيعة البشرية والبيئة المحيطة أكثر إلحاحاً. كما
أن رؤيته للأخلاق كمسؤولية اجتماعية تفاعلية، ورفضه للحياد السلبي، يقدمان أساساً
نظرياً قوياً للتفكير في دور الفرد والمجتمع في مواجهة المشكلات الأخلاقية
والاجتماعية المعاصرة.
الختام
.jpeg)
إن إتاحة هذا العمل للقارئ العربي، بفضل جهود المترجم الدكتور محمد لبيب النجيحي ودار النشر "أقلام عربية"، يمثل إضافة قيمة للمكتبة العربية، ويفتح الباب أمام حوار فكري أعمق حول طبيعة السلوك البشري، ودور التربية في تشكيله، والعلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع في سعينا نحو فهم أنفسنا وعالمنا بشكل أفضل. يقدم الكتاب أدوات تحليلية ومنظوراً متكاملاً يمكن أن يساعد المربين وعلماء النفس والاجتماع وصناع السياسات،
وكل مهتم بالشأن الإنساني، على تجاوز التفسيرات السطحية والمختزلة للسلوك البشري،
وتبني رؤية أكثر شمولية وعمقاً وواقعية.
عناصر موضوع **مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي
.jpeg)