## سجين السماء: رحلة إلى أعماق برشلونة الغامضة في ملحمة ثافون الأدبية

في المشهد الأدبي العالمي المعاصر، يبرز اسم الكاتب الإسباني الراحل كارلوس رويث ثافون كنجم ساطع، استطاع ببراعة أن يأسر قلوب وعقول ملايين القراء حول العالم من خلال رباعيته الشهيرة "مقبرة الكتب المنسية". وبعد النجاح المدوي الذي حققته روايتا "ظل الريح" و"لعبة الملاك" في نسختهما العربية، يأتي الجزء الثالث، "سجين السماء"، ليواصل المترجم السوري القدير معاوية عبد المجيد مهمته في نقل هذا العالم السردي الفريد إلى القارئ العربي، وذلك عبر "منشورات الجمل" العريقة.

تُعتبر "سجين السماء" محطة مفصلية ضمن السلسلة، فهي ليست مجرد إضافة جديدة، بل جسر يربط ببراعة بين خيوط القصص السابقة وشخصياتها المحبوبة، كاشفاً عن أسرار طال انتظارها ومُلقياً ضوءاً جديداً على أحداث ظلت غامضة. وكما يشير غلاف الرواية بذكاء، قد يجد القارئ الذي اعتاد على أجواء "ظل الريح" النوستالجية والرومانسية، أو دوامات "لعبة الملاك" الميتافيزيقية والمعقدة، نفسه أمام تحول ملموس في النبرة والتركيز. فثافون، بمهارته السردية المعهودة، ينتقل بنا هذه المرة إلى طبقات أعمق وأكثر قتامة من مدينته الأثيرة، برشلونة.

برشلونة ما تحت الأرض ندوب الحرب وأسرار الماضي

## سجين السماء: رحلة إلى أعماق برشلونة الغامضة في ملحمة ثافون الأدبية

إذا كانت الروايتان السابقتان قد استعرضتا برشلونة الساحرة، المليئة بالأزقة الضبابية والمكتبات العتيقة والقصص التي تفوح منها رائحة الورق القديم،

فإن "سجين السماء" تغوص بنا في برشلونة أخرى؛ برشلونة التي تحمل ندوب الحرب الأهلية الإسبانية وآثارها العميقة. إنها برشلونة "ما تحت الأرض"، ليس فقط بالمعنى الحرفي المتمثل في الأنفاق والسجون المحتملة، بل بالمعنى المجازي الذي يشير إلى الأسرار الدفينة، والماضي المؤلم الذي يرفض أن يظل مدفوناً، والصدمات النفسية التي يعيشها الأفراد والمجتمع ككل في فترة ما بعد الصراع.

يأخذنا ثافون إلى "عوالم السجين الداخلية"، وهو ما يوحي بأن جزءاً كبيراً من الرواية سيدور حول
شخصية أو شخصيات تعاني من قيود، سواء كانت قيوداً مادية في زنزانة حقيقية، أو قيوداً نفسية
ناجمة عن أسرار الماضي وعبء الذاكرة. هذا التركيز على البعد النفسي للشخصيات، وخاصة
شخصية "فيرمين روميرو دي توريس" المحبوبة والغامضة، يمنح الرواية عمقاً إضافياً ويكشف عن
جوانب جديدة في شخصيات ألفناها وأحببناها في الأجزاء السابقة، وعلى رأسهم دانييل سيمبيري
ووالده.

فن الحكي وتطويع السرد

تتجلى عبقرية ثافون في قدرته الفائقة على تطويع التقنيات السردية المختلفة لخدمة رؤيته.

ففي "سجين السماء"، يمزج ببراعة بين التشويق والإثارة والدراما الإنسانية العميقة. تتكشف الأحداث تدريجياً، قطعة تلو الأخرى، مثل لغز معقد يأخذ القارئ في رحلة عبر الزمن، متنقلاً بين الماضيوالحاضر، ليكتشف كيف أن الأحداث التي بدت منفصلة في السابق، هي في الواقع مترابطة بشكل وثيق، وأن "لا شيء يحدث عن طريق الصدفة" في هذا العالم الروائي المحكم البناء.

يحتفظ ثافون بأسلوبه المميز الذي يجمع بين اللغة الشعرية والوصف الدقيق والأجواء التي تميل أحياناً
إلى القوطية، لكنه يضيف إليها هنا عنصراً من الواقعية القاسية المرتبطة بتجربة الحرب والسجن
والقمع السياسي. هذا التمازج يخلق تجربة قراءة غنية ومتعددة الأوجه، ترضي محبي الغموض
والمغامرة، وفي الوقت نفسه، تمس أوتاراً إنسانية عميقة تتعلق بالصداقة، والولاء، والتضحية، وقوة
الذاكرة في مواجهة النسيان.

الترجمة ودورها في إثراء المكتبة العربية

لا يمكن الحديث عن وصول هذا العمل الهام إلى القارئ العربي دون الإشادة بالجهد المتميز للمترجم معاوية عبد المجيد،

الذي أثبت مرة أخرى قدرته على التعامل مع نص ثافون المركب والغني بالظلال، ونقله بروحانية وأمانة لغوية تليق بجماليات الأصل الإسباني. إن استمرارية المترجم نفسه في العمل على السلسلة تضمن للقارئ العربي تجربة متسقة ومترابطة عبر أجزائها المختلفة. كما أن نشرها عبر "منشورات الجمل" يضمن لها جودة طباعية وتوزيعاً يليق بأهميتها.

خاتمة قطعة أساسية في فسيفساء "مقبرة الكتب المنسية"

"سجين السماء" ليست مجرد رواية ممتعة بذاتها، بل هي حلقة وصل حيوية وأساسية في رباعية "مقبرة الكتب المنسية".

إنها تعمق فهمنا للشخصيات والأحداث، وتكشف عن طبقات جديدة من الغموض، وتزيد من ترابط هذا الكون الروائي الساحر الذي بناه كارلوس رويث ثافون. إنها دعوة للقراء، سواء كانوا من متابعي السلسلة الأوفياء أو الجدد الذين أغرتهم سمعتها، للغوص في شوارع برشلونة المظلمة والمضيئة، واستكشاف أسرارها الدفينة، والتأكيد مجدداً على أن للكتب والأدب قوة لا تضاهى في كشف الحقيقة وتخليد الذاكرة.

إنها رواية تؤكد مكانة ثافون كواحد من أعظم رواة القصص في عصرنا، وتترك القارئ في شوق لمعرفة كيف ستُختتم هذه الملحمة الأدبية الفريدة في جزئها الأخير.

أفكار الثقافة وألآدب

## سجين السماء: رحلة إلى أعماق برشلونة الغامضة في ملحمة ثافون الأدبية