الشاعر أيمن اللبدي

 

 

**الشياطين (في أربعة أجزاء): تحفة دوستويفسكي الخالدة عن الفوضى الإيديولوجية والهاوية الروحية**

 

تُعتبر رواية "الشياطين" (بالروسية: Бесы، وتنطق بيسي)، المنشورة في أربعة أجزاء بين عامي 1871 و 1872، واحدة من أعمق وأكثر أعمال فيودور دوستويفسكي إثارة للقلق والجدل. هي ليست مجرد رواية، بل هي تشريح نفسي واجتماعي وسياسي لروسيا في منتصف القرن التاسع عشر، ونبوءة أدبية مذهلة عن الاضطرابات الثورية والأزمات الروحية التي ستجتاح القرن العشرين.

**الشياطين (في أربعة أجزاء): تحفة دوستويفسكي الخالدة عن الفوضى الإيديولوجية والهاوية الروحية**

 تدور أحداث الرواية في "أرضٍ يتصارع فيها الضدان"، وهي بلدة روسية إقليمية تصبح مسرحًا لتصادم الأجيال والأفكار، وحقل تجارب لمجموعة من العدميين المتطرفين الذين يسعون لقلب النظام الاجتماعي رأساً على عقب.

**رياح الجحيم تهب على روسيا الإقليمية**

 

يُبحر دوستويفسكي في أعماق النفس البشرية والمجتمع الروسي، كاشفًا كيف يمكن للأفكار المجردة، عندما تُدفع إلى أقصى حدودها المنطقية والعملية،

 أن تتحول إلى "شياطين" حقيقية تعيث فسادًا. ليست هذه الشياطين كائنات خارقة للطبيعة، بل هم "شياطين الإنس" الذين ذكرهم المقتطف؛ مثقفون وشباب ثوريون تملكتهم أيديولوجيات هدامة كالعدمية والاشتراكية الإلحادية، وفقدوا أي بوصلة أخلاقية أو روحية. 

• إنهم يسعون إلى تدمير النظام القائم ليس من أجل بناء يوتوبيا أفضل
•  بل من أجل الفوضى نفسها، مدفوعين بمزيج من السخرية
•  واليأس، والغطرسة الفكرية، والرغبة في السلطة.

 

**شخصيات على حافة الهاوية**

 

تتجسد هذه الأفكار المدمرة في مجموعة من الشخصيات التي تُعد من بين الأكثر تعقيدًا وتراجيدية في الأدب العالمي:

 

*   **نيقولاي ستافروغين:** هو المحور الغامض والمأساوي للرواية، وهو "الشيطان الفاتن، الأرستقراطي الغامض" الموصوف في المقتطف. يتمتع بجاذبية ساحرة وقوة شخصية هائلة، لكنه يعاني فراغًا روحيًا عميقًا و"ألف تناقض". يترنح بالفعل بين بقايا "ضميرٍ ينهشه" بسبب أفعال ماضية مروعة (بعضها كُشف في فصل "عند تيخون" المحذوف لاحقًا) وبين "شهواتٍ تأسره" تدفعه إلى تجارب أخلاقية خطيرة وتلاعب مدمر بحياة الآخرين. إنه يمثل البحث عن الإيمان والمعنى في عالمٍ فقدهما، ولكنه غير قادر على الالتزام بأي شيء، ويحمل "سرًّا" مظلمًا يهدد بتدميره تمامًا. جاذبيته وقوته السلبية تجعلان منه نقطة جذب للشخصيات الأخرى، سواء بالإعجاب أو بالخوف أو بالتأثير المدمر.

 

*   **بيوتر فيرخوفنسكي:** ابن المثقف الليبرالي ستيبان فيرخوفنسكي، وهو المنظم الرئيسي للخلية الثورية السرية. على عكس ستافروغين المعذب داخليًا، بيوتر هو تجسيد للشر البارد والواعي. إنه متآمر ماكر، لا يؤمن بأي شيء سوى السلطة والفوضى كوسيلة لتحقيقها. يستغل ضعف الآخرين وتطرفهم لتحقيق أهدافه، وهو المهندس الحقيقي للأعمال الإرهابية والعنف التي تقع في البلدة. يمثل خطورة الأيديولوجيا حين تتحول إلى أداة للسلطة المطلقة خالية من أي وازع أخلاقي.

 

*   **شاتوف وكيريلوف:** عضوان سابقان في الدائرة الثورية، يمثلان مسارين مختلفين للخروج من العدمية. شاتوف يبحث عن الخلاص في العودة إلى الإيمان الأرثوذكسي والجذور الروسية، ممثلاً الصراع من أجل الإيمان والهوية الوطنية. أما كيريلوف، المهندس ذو المنطق الحديدي، فيسعى لإثبات الإرادة الحرة المطلقة من خلال الانتحار الفلسفي، ليصبح هو نفسه "الإنسان الإله"، ممثلاً ذروة التحدي الإلحادي واليأس الوجودي.

 

*   **ستيبان فيرخوفنسكي:** يمثل الجيل القديم من المثقفين الليبراليين الرومانسيين، الذين مهدت أفكارهم بشكل غير مباشر لظهور راديكالية الجيل الأصغر، لكنهم يقفون الآن عاجزين ومروعين أمام النتائج العنيفة لتلك الأفكار.

 

**صراع الأفكار والبحث عن المعنى**

 

"الشياطين" ليست مجرد قصة مؤامرات سياسية، بل هي صراع فلسفي عميق حول الإيمان والإلحاد، الحرية والضرورة، الخير والشر، ومصير روسيا. يستكشف دوستويفسكي ببراعة كيف يمكن لغياب الإيمان بالله والقيم الروحية أن يؤدي إلى فراغ تملؤه الأيديولوجيات المتطرفة التي تبرر أفظع الأعمال باسم مستقبل مجرد أو إرادة فردية مطلقة.

 

**إرث خالد**

 

تظل "الشياطين" رواية قوية وصادمة، ذات صلة مذهلة بعصرنا الحالي الذي يشهد صعود التطرف الأيديولوجي والأزمات الروحية. إنها دعوة للتفكير في طبيعة الأفكار التي نتبناها، وفي العواقب الوخيمة لفقدان الأسس الأخلاقية والروحية في حياة الفرد والمجتمع.

الختام

 من خلال شخصياته المعقدة وأحداثه المروعة وعمقه الفلسفي، يقدم دوستويفسكي تحذيرًا خالدًا حول القوى التدميرية الكامنة في النفس البشرية وفي الأيديولوجيات التي تعد بالخلاص الأرضي على حساب الروح. إنها تحفة أدبية لا غنى عنها لكل من يسعى لفهم تعقيدات الحالة الإنسانية ومخاطر التطرف الفكري.