## العصر العباسي الأول: جدلية السطوح الزاهية وأعماق التراجيديا
يشكل العصر العباسي الأول، بامتداده الزمني من
قيام الدولة العباسية وحتى بداية القرن الرابع الهجري، حقبة بالغة الأهمية في
تاريخ الحضارة الإسلامية. فهو عصر ازدهار العلوم والفنون، ونهضة فكرية لم يشهد لها
التاريخ مثيلاً. غير أن هذه الصورة المضيئة التي سطرتها إنجازات هذا العصر، تخفي
وراءها جوانب أخرى أكثر قتامة، تجسدها مفارقة حادة بين سطوحه الزاهية وأعماقه
المترعة بالتراجيديا.
![]() |
## العصر العباسي الأول: جدلية السطوح الزاهية وأعماق التراجيديا |
فقد شهد هذا العصر انفتاحاً غير مسبوق على ملذات
الحياة، وتغلغلاً للترف والرفاهية في أوساط المجتمع، وصولاً إلى القصور الخلفائية.
لم تكن ظاهرة التغزل بالمرأة والاحتفاء بالملذات وليدة العصر العباسي، بل كانت
امتداداً لتيار بدأ في العصر الأموي. إلا أن ما يميز النسخة العباسية هو جرأتها
وتطرفها، إذ تجاوزت حدود الأدب الرفيع إلى التعبير الصريح عن الرغبات الحسية،
والانغماس في اللهو والمجون.
وقد ساهم في هذا التحول جملة من العوامل، أبرزها
- * **التحول السياسي والاجتماعي:** سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، أحدث تغييراً جذرياً في موازين القوى الاجتماعية. فقد صعدت إلى الواجهة طبقات جديدة من المجتمع، لم تكن تحظى بمكانة مرموقة في العصر الأموي، كالفرس والموالي وغيرهم. هذه الطبقات الجديدة حملت معها ثقافاتها وتقاليدها، ورغبتها في التعبير عن ذاتها، والانخراط في الحياة العامة.
- * **الازدهار الاقتصادي:** شهد العصر العباسي ازدهاراً اقتصادياً كبيراً، نتيجة اتساع رقعة الدولة، وتنوع مصادر الدخل. هذا الازدهار انعكس على حياة الناس، وزاد من قدرتهم على الاستمتاع بالملذات، والترفيه عن أنفسهم.
- * **الانفتاح على الثقافات الأخرى:** اتسم العصر العباسي بالانفتاح على الثقافات الأخرى، وخاصة الثقافة الفارسية واليونانية والهندية. هذا الانفتاح أثرى الفكر والأدب والفن، وساهم في تطوير أساليب جديدة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس.
- وقد تجلى هذا الانفتاح في ظهور نخبة من الشعراء والكتاب والمغنين، الذين أبدعوا في وصف
- الملذات، والتغزل بالمرأة، والتعبير عن مشاعر الحب والهيام. من أبرز هؤلاء: أبو نواس، وبشار بن
- برد، ووالبة بن الحباب، والحسين بن الضحاك الخليع، ومطيع بن إياس، ومسلم بن الوليد، وعلي بن
- الجهم، وحماد عجرد، وزرياب، وإسحق وإبراهيم الموصلي، وعريب، وإبراهيم بن المهدي، وابن
- جامع،
وغيرهم.
غير أن هذه الصورة البراقة، تخفي وراءها واقعاً
أكثر تعقيداً. فقد كان العصر العباسي الأول عصر صراعات سياسية واجتماعية حادة،
وصراعات فكرية وثقافية عميقة. فقد واجه العباسيون منذ قيام دولتهم تحديات كبيرة،
أبرزها:
- * **الثورات العلوية:** استمر العلويون في معارضة الحكم العباسي، وقاموا بالعديد من الثورات والانتفاضات، التي أثارت القلاقل والاضطرابات في الدولة.
- * **الصراع بين العرب والفرس:** استمر الصراع بين العرب والفرس على النفوذ والسلطة في الدولة العباسية. هذا الصراع أدى إلى انقسامات داخل المجتمع، وإلى تفاقم المشاكل السياسية والاجتماعية.
- * **التغلغل التركي:** بدأ الأتراك في التغلغل في مفاصل الدولة العباسية، وخاصة في الجيش والإدارة. هذا التغلغل أدى إلى تهميش العرب، وإلى فقدانهم السيطرة على السلطة.
وقد انعكست هذه الصراعات على حياة الناس
وأثارت لديهم مشاعر القلق والخوف واليأس. هذا الواقع المتناقض، بين مظاهر اللهو والترف،
وواقع الصراعات والاضطرابات، أدى إلى ظهور ما يمكن تسميته بـ "ازدواجية
الشخصية" لدى بعض الخلفاء والوزراء والأمراء. فقد كانوا يمارسون اللهو
والمجون في القصور، ويتظاهرون بالورع والتقوى في المساجد. كانوا يحاولون إرضاء
جميع الأطراف، وتجنب إغضاب المتشددين من الفقهاء والعامة، وفي الوقت نفسه
الاستمتاع بملذات الحياة.
- وقد تجلى هذا التناقض في سلوك بعض الخلفاء، الذين كانوا يعاقبون المفرطين في الفسق والمجون
- وفي الوقت نفسه يرتكبون هم أنفسهم نفس الأفعال. وقد تحولت تهمة الزندقة والمروق إلى سيف مسلط
- على رقاب المعارضين
السياسيين، وتم قتل البعض منهم بتهمة الزندقة.
وقد ساهمت هذه الظروف في ظهور جيل من الشعراء
والكتاب، الذين تميزوا بالتمرد على القيم والأعراف السائدة، وبالانغماس في الفسق
والمجون. هؤلاء الشعراء لم يكونوا مجرد باحثين عن المتعة، بل كانوا يعبرون عن
رفضهم للواقع السياسي والاجتماعي، وعن شعورهم باليأس والإحباط.
وقد لعبت الظروف الشخصية لهؤلاء الشعراء
دوراًكبيراً في تشكيل شخصياتهم وأساليبهم. فقد كان بعضهم يعاني من الفقر والتهميش
الاجتماعي، والبعض الآخر يعاني من التشوهات الجسدية، والبعض الآخر يعاني من فقدان
الأهل والأحبة. هذه الظروف دفعتهم إلى التمرد على المجتمع، وإلى البحث عن المتعة
في عالم الفسق والمجون.
- فأبو نواس، على سبيل المثال، كان يتيماً، وعاش طفولة قاسية، وشهد انحرافاً أخلاقياً في عائلته. هذا
- الواقع دفعه إلى التمرد على المجتمع، وإلى الانغماس في الفسق والمجون، كنوع من الانتقام من أمه
- ومن نفسه ومن
مجتمعه.
وبشار بن برد، كان أعمى وأعرج، وعانى من الفقر
والتهميش الاجتماعي. هذا الواقع ولد لديه شعوراً بالنقمة على كل ما يحيط به، ودفعه
إلى التمرد على القيم والأعراف السائدة.
- أما مطيع بن إياس، فقد كان معروفاً باستهتاره وتهتكه وأشعاره الماجنة. غير أنه في الوقت نفسه كان
- يحمل في داخله مشاعر رقيقة
وأحاسيس مرهفة، وكان يعبر عن حبه وشوقه وحنينه في أشعاره.
هؤلاء الشعراء، على الرغم من انغماسهم في الفسق والمجون
لم يكونوا مجرد باحثين عن المتعة، بل كانوا يعبرون عن مشاعر إنسانية
عميقة، وعن تجارب شخصية مؤلمة. كانوا يعيشون في عالم متناقض، بين سطوح زاهية
وأعماق مترعة بالتراجيديا، وكانوا يحاولون التعبير عن هذا التناقض في أشعارهم
وكتاباتهم.
- إن فهم العصر العباسي الأول يتطلب تجاوز الصورة النمطية التي تختزله في مظاهر اللهو والترف
- والانتباه إلى الجوانب الأخرى الأكثر قتامة، التي تجسدها الصراعات السياسية والاجتماعية
- والصراعات الفكرية والثقافية، والتجارب الشخصية المؤلمة.
الختام
إن هذا العصر يمثل نموذجاً للجدلية القائمة بين السطوح
الزاهية والأعماق المترعة بالتراجيديا، وهي جدلية لا تزال حاضرة في حياتنا حتى
اليوم. فكم من مظاهر للتقدم والازدهار تخفي وراءها واقعاً أكثر قتامة، وكم من
ابتسامات تخفي وراءها دموعاً وآلاماً.