## "رأس أنجلة" لإيناس العباسي: سيمفونية الهجرة والقدر في أتون الذاكرة والجغرافيا
في أروقة الأدب التونسي المعاصر، يطل علينا صوت
جديد يحمل في طياته أصداء الماضي وهموم الحاضر وتطلعات المستقبل. صوت ينسج من خيوط
الواقع والخيال لوحة فنية آسرة، تحاكي الوجع الإنساني في سعيه الدؤوب نحو الخلاص. هذا
الصوت هو صوت الكاتبة التونسية إيناس العباسي، التي تقدم لنا أحدث إصداراتها
الروائية "رأس أنجلة" الصادرة عن دار نوفل/هاشيت أنطوان، لتضيف لبنة
جديدة إلى صرح الأدب التونسي والعربي.
![]() |
## "رأس أنجلة" لإيناس العباسي: سيمفونية الهجرة والقدر في أتون الذاكرة والجغرافيا |
"رأس أنجلة" ليست مجرد رواية، بل هي
رحلة في أعماق النفس البشرية، واستكشاف دقيق للعلاقات الإنسانية المعقدة، وتأمل
عميق في قضايا الهوية والجذور والقدر. هي قصة تروي حكاية شقيقتين تونسيتين، ليندا
وناديا، تجد كل منهما نفسها مضطرة للهجرة بحثًا عن حياة أفضل، أو هربًا من واقع
أليم. ليندا تتجه شرقًا نحو المدن البراقة التي تعد بالثراء، بينما ناديا تغرب صوب
فرنسا، باحثة عن الأمان بعد سلسلة من الصدمات التي تعرضت لها في وطنها. وبين
الشقيقتين، تبرز قصة فيليب، الفرنسي الثلاثيني مجهول الأب التونسي، لترسم خطًا
ثالثًا في هذه اللوحة المعقدة، وتضيف بعدًا آخر إلى قضية الهوية والانتماء.
تتجاوز الرواية حدود الحكاية الشخصية
لتلامس قضايا أعم وأشمل، فهي تتناول موضوع الهجرة بكل ما يحمله من آمال وخيبات، وتعرج على
الجذور التي تظل تنادينا مهما بعدت المسافات، وتستكشف نتائج الاستعمار الذي لا
يزال يلقي بظلاله على حاضرنا، وتلقي الضوء على مآسي الهجرة غير الشرعية التي تزهق
أرواحًا شابة طموحة.
**في رحاب الهرب الدائم**
تُقدم الرواية مفهومًا عميقًا للهرب، ليس فقط
كفعل مادي يتمثل في مغادرة مكان إلى آخر، بل كهرب نفسي وعاطفي من الذات ومن القدر.
ناديا تهرب أولاً من أب لا يرحم، ثم تهرب مرة أخرى بعد تعرضها لمحاولة قتل في
بنزرت، لتجد نفسها في فرنسا حيث يطاردها هاجس الهرب المستمر من زوج فرنسي يعاني من
صدمات حرب أفغانستان. هذا الهروب المتكرر يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الأمان
والاستقرار، وهل يمكن للإنسان أن يجد ملاذًا آمنًا في هذا العالم المضطرب؟
- تتساءل الرواية بلسان أبطالها: "ممَّن نهرب بالفعل؟ وممَّ؟ وإلى أين؟ وهل من مكانٍ آمنٍ أصلاً على
- هذه الأرض؟". هذه التساؤلات الوجودية تتردد أصداؤها في حياة كل شخصية من شخصيات الرواية،
- فكل منهم يحمل عبء الماضي وآثار الصدمات، ويسعى جاهدًا لإيجاد معنى لحياته في عالم يبدو
- قاسيًا وغير عادل.
أخو ناديا، نوفل، يهرب حالمًا بالبدايات الجديدة
في إيطاليا، لكن البحر الذي ابتلع أحلام الكثيرين، يبتلعه هو الآخر. ليندا، التي
فشلت في الغناء، تحلم بالثراء وتبتلعها المدن البراقة التي تخفي وراء بريقها
خداعًا وأوهامًا. هذه المصائر المأساوية تعكس الواقع المر الذي يدفع الشباب نحو
الهجرة غير الآمنة، وتؤكد أن الغرب ليس دائمًا الجنة التي يحلمون بها، بل هو أيضًا
غارق في أزماته ومشاكله.
**الغرب ليس جنة عدن**
تُظهر الرواية بوضوح أن الغرب ليس دائمًا الملجأ الآمن من جحيم أزمات الشرق. فالمهاجرون يواجهون تحديات كبيرة في التأقلم مع الثقافة الجديدة، ويتعرضون للعنصرية والتمييز، ويعانون من الوحدة والاغتراب. الرواية تسلط الضوء على الهجرة غير الشرعية وتاريخ المهاجرين إلى الغرب، وتكشف عن قصص إنسانية مؤثرة تظهر معاناتهم وتضحياتهم
.
- لا تكتفي الرواية برصد معاناة المهاجرين، بل تتجاوز ذلك إلى تحليل أسباب الهجرة والعوامل التي
- تدفع الشباب إلى ترك أوطانهم. فهي تتناول قضايا الفساد والظلم والاستبداد التي تعاني منها العديد من
- الدول العربية، وتؤكد أن الإصلاح والتغيير هما الحل الأمثل لوقف نزيف الهجرة واستعادة الأمل في
- المستقبل.
**في البحث عن الذات والآخر**
تعتبر الرواية رحلة في البحث عن الذات والآخر،
فكل شخصية من شخصيات الرواية تسعى إلى فهم نفسها وفهم العالم من حولها. ناديا تبحث
عن هويتها كامرأة تونسية تعيش في فرنسا، وتحاول التوفيق بين ثقافتها الأصلية
وثقافة بلدها الجديد. فيليب يبحث عن جذوره التونسية المجهولة، ويسعى إلى فهم والده
الذي لم يعرفه. ليندا تبحث عن النجاح والشهرة، وتحاول إثبات نفسها في عالم الفن
والموسيقى.
- من خلال هذه الرحلات الشخصية، تكشف الرواية عن أهمية الحوار والتواصل بين الثقافات المختلفة،
- وضرورة احترام الآخر وتقبل اختلافاته. فالرواية تدعو إلى التسامح والتعايش، وتؤكد أن الاختلاف
- هو مصدر قوة
وثراء وليس سببًا للخلاف والصراع.
**لمسة سحر الطفولة**
لا تخلو الرواية من لمسة سحر الطفولة الممتعة،
ففي ثنايا الأحداث تظهر ذكريات جميلة من الماضي، تعيدنا إلى أيام البراءة والصفاء.
هذه الذكريات تضفي على الرواية جوًا من الحنين والشوق إلى الوطن، وتذكرنا بأهمية
الحفاظ على تراثنا وثقافتنا.
- تتميز الرواية بلغة شعرية سلسة وأسلوب سردي مشوق، يجذب القارئ من الصفحة الأولى حتى
- الصفحة الأخيرة. إيناس العباسي تستخدم اللغة ببراعة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس، وتصوير
- المشاهد والمواقف بدقة وواقعية. الرواية مليئة بالصور البلاغية والاستعارات الجميلة التي تزيد من
- جمالية النص
وعمقه.
**إيناس العباسي: صوت أدبي متميز**
إيناس العباسي ليست مجرد كاتبة، بل هي شاعرة
ومترجمة أيضًا. فقد نالت العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، منها جائزة أحسن
كتاب شعري تونسي لسنة 2004 عن "أسرار الريح"، وجائزة المعهد الدنماركي
بدمشق عن قصتها "حرب سنة 2012"، وجائزة "الكريديف" عام 2007
عن كتابها الشعري "أرشيف الأعمى"، وجائزة الكومار سنة 2018 عن "منزل
بورقيبة". هذه الجوائز تؤكد على موهبة إيناس العباسي وتميزها في عالم الأدب.
الختام
"رأس أنجلة" هي إضافة قيمة إلى
المكتبة العربية، ورواية تستحق القراءة والتأمل. فهي قصة تلامس القلب والعقل،
وتثير فينا الكثير من التساؤلات حول مصيرنا ومستقبلنا. إيناس العباسي تقدم لنا
عملًا أدبيًا متميزًا، يؤكد على قدرة الأدب على تغيير العالم وإلهام الأجيال القادمة.
إنها رواية عن الهوية والانتماء، عن الحب والفقد، عن الأمل واليأس، عن الحياة
والموت. إنها رواية عن الإنسان في مواجهة القدر.