## هل يحمل التاريخ حقًا حلولًا لأزمات الحاضر؟
تُحاول كلّ حضارة أن تُرَوّي سرديّتها الخاصّة،
تُحاول أن تُفهم نفسها عبر سياقها الخاص، تُحاول أن تَتَحَدّث عن مآثرها وتُبرّر
فشلها. في هذا السياق، يُصبح التاريخ مرآة تعكسُ لنا ذواتنا، ونتعلم منه، ونُحاول
تَجنّب أخطاء الماضي ونُحاول تكرار نجاحاته. ولكن هل يُمكن أن يكون التاريخ بمثابة
مُرشدٍ حقيقيّ للبشرية، مُرشدٌ يقدم الحلول لأزمات الحاضر؟
## هل يحمل التاريخ حقًا حلولًا لأزمات الحاضر؟
في كتابه "تاريخ من أجل المستقبل:
إلهام
من الماضي لمستقبل الإنسانية"، يزعم الفيلسوف الاسترالي/البريطاني رومان
كرزناريك أنّنا اليوم في حاجةٍ إلى عبر التاريخ ودروسه أكثر من أيّ وقتٍ مضى. يُحذّرنا
كرزناريك من أنّنا "نُلهى" بشعار العيش في الحاضر، فلا نرى المشكلة
الحقيقية: عدم عيشنا في الماضي بالقدر الكافي.
يُؤكّد كرزناريك أنّ "ديمومة الآن" التي
تميّز حياة الإنترنت تُؤدي إلى تآكل ذاكرتنا الجماعية، وتُضعف قدرتنا على استخلاص
الدروس من الماضي.
في هذا السياق، يُصبح كتاب كرزناريك بمثابة "منقذ"
من غياهب النسيان، مُذكّرًا إيّانا بقيم تاريخية تُمكننا من التّعامل مع تحديات
الحاضر. يُناقش كرزناريك في كتابه العديد من الأمثلة التاريخية، مُحاولًا استخلاص
الحلول من الماضي لمواجهة التحديات المعاصرة.
من أبرز هذه الأمثلة،
ثورة
العبيد في جامايكا عام 1831، حيثُ تمكّن 20 ألف عبدٍ من إشعال ثورةٍ ضدّ الاستعباد.
تُعتبر هذه الثورة نقطة تحولٍ حاسمةٍ في تاريخ إلغاء العبودية، فهي تُظهر لنا كيف
يُمكن للتغيير أن يحدث بشكلٍ سريعٍ، وأنّ الحاجة إلى التدرّج ليست دائمًا ضرورية.
يُشير كرزناريك إلى أنّ التدرّج يُصبح عائقًا
أمام التغيير، وأنّ النشطاء السياسيين يُسرّعون إيقاع التغيير من خلال أزماتٍ
مُحددة.
ومن الأمثلة التاريخية
التي يُقدمها كرزناريك،
مدينة قرطبة في إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر، حيثُ كانت ثقافة التسامح
سائدةً، مما سمح للمسلمين واليهود والمسيحيين بالعيش معًا بشكلٍ مُتناسقٍ.
يرى كرزناريك أنّ هذه التجربة التاريخية تُمثل
نموذجًا يُمكن أن نتعلم منه اليوم في ظلّ انتشار ظاهرة التطرّف والعنصرية.
يُشدّد كرزناريك أيضًا على أهمية العصبية في
استقرار الإمبراطوريات، مستندًا إلى نظرية ابن خلدون في القرن الخامس عشر. يُؤكد
ابن خلدون أنّ الإمبراطوريات تنهار حين تفتقر إلى العصبية، أو التضامن الجمعيّ،
ويرى كرزناريك أنّ تركيز الثروة والتفاوت
السياسيّ يُؤديان إلى تفككٍ اجتماعيّ.
يُحاول كرزناريك أيضًا التّعامل مع مشكلة هيمنة
الشركات الرّأسمالية الكبرى، مثل غوغل ومايكروسوفت وأوبر، مُشيرًا إلى أنّ هذه
الشركات تُهدد التّراث التّعاونيّ الذي ازدهر في مناطقٍ مثل إميليا رومانيا في
إيطاليا.
يُقدم كرزناريك مثالًا آخر مُثيرًا للاهتمام،
وهو "محكمة المياه" في فالنسيا. تُعدّ هذه المحكمة أقدم مؤسسةٍ للعدالة
في أوروبا،
تُدار بواسطة تسعة قضاةٍ يُنتخبون ديمقراطيًّا
من المزارعين،
يقومون بتحكيم نزاعاتهم حول المياه.
يُشير كرزناريك إلى أنّ هذه المحكمة تُمثل
نموذجًا يُمكن استخدامه لمعالجة النّزاعات حول المياه في جميع أنحاء العالم، خاصةً
في ظلّ ازدياد ندرة المياه.
يُؤكّد كرزناريك على أهمية مشاركة المجتمع
المدنيّ في عملية التّغيير،
ويُشدّد على دور الناس العاديين في إيجاد حلولٍ
للمشكلات،
خاصةً حينما تُقاعس الحكومات عن القيام بدورها.
يُقدم كتاب "تاريخ من أجل المستقبل" إطارًا
جديدًا لفهم التاريخ،
يُركّز على استخلاص الدروس من الماضي لمواجهة
تحديات الحاضر.
يُشير الكتاب إلى أنّ التاريخ ليس مجرد مجموعةٍ
من الوقائع،
بل هو مصدرٌ للرؤى والخبرات التي تُمكننا من فهم
واقعنا الحاليّ،
وتُساعدنا على بناء مستقبلٍ أفضل.
يُعتبر كتاب كرزناريك دعوةً إلى إعادة النظر في
تاريخنا،
والتّعلّم من الأخطاء والتّجارب الناجحة التي
مرّت بها الحضارات السّابقة.
يُمكن أن يُصبح التاريخ مرشدًا حقيقيًّا للبشرية،
يُقدم لنا حلولًا لأزمات الحاضر،
ويُساعدنا على بناء مستقبلٍ أفضل.
يُمكن أن يُلهمنا الماضي بالطرق التي لم
نتخيّلها من قبل،
ويساعدنا على التّغلب على التّحديات التي
تواجهنا اليوم.
ولكنّنا نحتاج إلى النظر إلى التاريخ بعيونٍ
جديدةٍ،
بعيونٍ مُستعدّةٍ لِتَقبّلِ الدروس والرّؤى التي
يُقدمها لنا.