recent
أخبار ساخنة

فخ الحضارة: الذكاء الاصطناعي الفائق واللغة العربية

الصفحة الرئيسية

 

فخ الحضارة: الذكاء الاصطناعي الفائق واللغة العربية

ربما لم يُدرك كثيرٌ منا بعد جوهر التحوّل الجذري الذي نشهده في منظومة الذكاء الاصطناعي الفائق، فاعتبره البعض مجرد أداة جديدة تضاف إلى قائمة اختراعاتنا السابقة مثل القنبلة النووية أو الطائرات والسيارات والغواصات والراديو والتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت. لكن الحقيقة أننا أمام تحوّلٍ مختلفٍ تمامًا عن كل ما سبق، فالآن ولأول مرة في تاريخ البشر، أصبحت الآلة تمتلك عقلًا فائقًا، عقلًا ليس مجازيًا أو نوعًا من التشبيه، بل عقلًا غير بشري، وغير متطابق في كل وظائفه مع ما يتم في مخ البشر حتى الآن.


فخ الحضارة: الذكاء الاصطناعي الفائق واللغة العربية

فخ الحضارة: الذكاء الاصطناعي الفائق واللغة العربية



 

مع ذلك، يتطابق هذا العقل بشكلٍ كبير مع عمليات مخ الإنسان، محاكيا شبكاته العصبية ووظائفه الدماغية من الذاكرة المرنة المنفتحة على التشغيل بمستوياتها من المدى القصير والطويل، والذاكرة القابلة للتوسع مع مرور الوقت وزيادة المخزون من البيانات والمعلومات. لكن هذا العقل يفوق عقول البشر ملايين ومليارات المرات في القدرة على معالجة البيانات وفي سرعة المعالجة.

 

 

باختصار شديد، يمكن القول إنه إذا كان البشر عبر كل تاريخهم السابق كانوا ينتجون آلات وأجهزة تغطي شئون الحياة كافة، من الزراعة والصناعة إلى الأعمال المنزلية والمعدات الحربية، فإنهم قد تمكنوا الآن مع ثورة الذكاء الاصطناعي من صنع عقلٍ لكل هذه الآلات. هذه هي اللحظة التي أصبحت فيها كل مخترعات البشر السابقة تمتلك عقلًا.

لكن ما الذي يجعل هذا التحوّل مختلفًا عن ثوراتنا العلمية السابقة؟ الجواب يكمن في هذا العقل الآلي الذي لم يعد مجرد وسيط أو وسيلة، فبينما كان الكمبيوتر (الذكاء الاصطناعي التقليدي) بكل تعقيده مجرد أداة، كسيارةٍ أو سكينٍ أو هاتفٍ محمول، كان الإنسان يظل المتحكم بشكلٍ كاملٍ، بصرف النظر عن قدراته.

 

 

أما الآن مع ثورة الذكاء الاصطناعي الفائق، فالأمر مختلف تمامًا. فالعقل الآلي أصبح فاعلاً لأول مرة في التاريخ، يملك دماغًا محاكيا لدماغ البشر عبر شبكة عصبية مشابهة للشبكات العصبية التي في مخ الإنسان، وهذه الشبكة العصبية لها منظومتها البنائية التي تجعلها مختلفة بشكلٍ كاملٍ في تعاملها مع المواد التي تشتغل عليها عن الكمبيوتر التقليدي.

في هذه المرحلة الجديدة من امتلاك الآلة لعقلٍ حقيقي، بل حقيقيٌ بطبيعته لكونه محاكاة متطابقة لعقل الإنسان، أصبحت هذه الآلة فاعلة ومنتجة ومؤثرة بشكلٍ ملموس. نعم، مازال هذا العقل اصطناعيًا، أي ليس من لحمٍ ودمٍ، لكنّه يؤدي حتى الآن غالبية وظائف العقل البشري وبخاصة في تعامله مع اللغة.

وصل هذا العقل الاصطناعي الفائق والتوليدي إلى حدودٍ عميقةٍ من الفهم وتكوين المعنى، الأهم أنه يؤدي ما يُعرف بالتعلم العميق (deep learning) والقابلية للتطور ذاتيًا. وهذا يعني أنّه ليس مجرد أداةٍ أو وسيلة، بل أصبح كائنًا ذكيًا يطور نفسه ويتعلم من تجاربه.

 

 

ويزداد الأمر تعقيدًا مع بداية تعامل هذا العقل مع اللغة الطبيعية، أو ما يُعرف بنظام (NLP) الذي اختصارًا (Natural Language Processing)، فأصبح كل نظام للذكاء الاصطناعي يتعامل مباشرة مع اللغات الطبيعية في منظومته الداخلية من التعلم العميق والمعالجة ومحاولة الفهم وتنفيذ المهام داخل كل لغة بطبيعتها. وهذا تحولٌ جوهريٌ ولافتٌ وله تأثيره داخل كل لغةٍ وكل ثقافةٍ، بخاصة مع اتساع حدود معالجة الذكاء الاصطناعي الفائق داخل كل لغةٍ إلى معالجة النماذج اللغوية الكبرى (LLMs) (Large Language Models) التي أصبحت أساسًا في هذا النظام.

الذكاء الاصطناعي كما يجب أن نفهمه هو (سوفت وير جديد للعالم)، أي أنه ينسحب على كل جوانب الحياة، من تفاصيل الحياة اليومية العادية في الشارع وفي المدرسة وفي الشركات والجيوش والآلات الزراعية إلى وسائل استكشاف الفضاء.

إن هذه مجرد بعض المسارات المحتملة بقوة، وبعضها أصبحت مؤكدة. وستكون لها آثارها الأخرى الكثيرة التي ستمتد بلا شكٍ إلى حياتنا ومجتمعاتنا. لا يمكن لعاقل أن يتأخر في التفكر فيها والتجهز لها إن كان يملك بقية من عقلٍ أو مازال يفكر مثل بقية البشر الطبيعيين.

 

 

لكن من المهم أن ننتبه إلى مسألةٍ مهمةٍ تخص لحظتنا. ففي القديم كانت المخترعات تنتقل هي وآثارها من حضارةٍ إلى أخرى عبر الحروب والغزو. أما في العصر الحالي، ومنذ هيمنة التكنولوجيا على العالم، فالأمر أصبح مختلفًا، فانتقال المخترعات بما لها من آثار وتبعات من داخل أسوار حضارةٍ إلى أخرى لم يعد بحاجةٍ إلى غزوٍ أو حروبٍ، إذ يعتمد الغزو بالأساس عليها هي نفسها بدرجةٍ أولى، بصورةٍ ناعمةٍ وأكثر فاعليةٍ وأكثر أمانًا لمالكها الذي لم يعد بحاجةً لأن يكلّف نفسه عتادًا وجيوشًا وأسلحةً بالصور التقليدية.

قديما بعد اكتشاف البارود وبداية استخدامه في الحرب استهان به بعض الفقهاء في القاهرة في عصر المماليك وحرّموا استعمال جيش مصر له في الحروب. وكان ذلك سبباً في تمكين العثمانيين من فرض سيطرتهم على دولة المماليك وإسقاطها. كان هذا تحوّلًا كبيرًا في منطق الدول الإسلامية وهيمنة التناحر الداخلي الذي انتهى باضمحلالها التام، وكان بداية التحول الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط. على نحوٍ ما تهاون المماليك كذلك مع مسألة تحوّل طريق التجارة إلى رأس الرجاء الصالح، فأثّر ذلك على وضع الدولة اقتصاديًا، والاقتصاد أثر في القدرات العسكرية، والأمر نفسه مع رأيٍ فقهيٍ جعل التفوق العسكري لصالح العثمانيين، وكلها في النهاية أدت إلى حقيقةٍ واحدةٍ وهي أن قوةً جديدةً حلت محل القديمة واستولت على ملكها.

مازال هذا القانون ساريا، فهو أزلي، فكل تغيرٍ في معادلات الاقتصاد أو العلوم يؤثر في موازين القوى في العالم، لتتمكّن أممٌ من أممٍ أخرى، وهكذا في تجددٍ، مع ذلك لا أدرى لماذا حضاراتنا بالتحديد هي التي تغفل هذا القانون، فلم تعد تعر انتباهاً لما يجري حولها وبخاصة في العلوم إلا قليلاً وبشكلٍ فرديٍ وبعيدا عن المنهجية أو التيار الغالب الذي يصنع الوعي التراكمي بالذات وبالآخر. وإذا حاولنا فيه نكون مستوردين ومستهلكين ومقلدين؟!

 

 

من هذه المنطلقات مجتمعة جاء تأملنا لهذا التحوّل العميق الذي ستؤدي إليه ثورة الذكاء الاصطناعي الفائق، وجاءت محاولتنا لأن نفكر في تبعاته وآثاره في ضوء محددات ثقافتنا ولغتنا وفي ضوء نظامه الجديد المشتغل مباشرة على اللغة العربية والمتوافر من موادها بكل أنواعها، المكتوبة والمسموعة، القديمة والحديثة، لينقسم ذلك إلى سؤالين؛ الأول يخص اللغة نفسها أو تعامل هذا العقل الاصطناعي الفائق مع اللغة في حد ذاتها بقوانينها وبنيتها وحالة أهلها من الوعي بها وبنظامها. ثم السؤال الثاني ويخص طبيعة هذه المواد باللغة العربية والمنتج الفكري العربي المطروح، وهو ما يعني الثقافة العربية أو ما فضلنا طرحه على أنه تفاعل الذكاء الاصطناعي مع الثقافة العربية ومنتجات العقل العربي بحسب الواضح من حالته الراهنة في ضوء استقصائنا وتقديرنا.

 

 

وبعد طرح عددٍ من الأسئلة والتصورات حول احتمالات تفاعل الذكاء الاصطناعي مع الثقافة واللغة العربية وإشكالياته معهما في الفصول الثلاثة التالية، طرحنا في النهاية فصلاً رابعًا يتضمن تصوّرًا لبعض الحلول أو المنافذ نحو الخروج من هذه المآزق المحتملة، لتكون لدينا بعض المقترحات المبدئية لمحاولة تفادي هذا المصير الكابوسي لو أردنا الدقة والأمانة في التوصيف.

 

 

اللغة العربية في مواجهة الذكاء الاصطناعي الفائق:

يُعدّ تعامل الذكاء الاصطناعي الفائق مع اللغة العربية تحديًا هامًا، فقد تم تطوير معظم تقنيات الذكاء الاصطناعي في الغرب، ولذلك يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على البيانات والمعلومات المتاحة باللغات الغربية، مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية. وتُعاني اللغة العربية من نقصٍ كبيرٍ في البيانات الرقمية، وخاصة في مجالات مثل الترجمة والتحليل اللغوي.

ومع ذلك، توجد بعض الجهود الجادة لسد هذه الفجوة. تُطوّر بعض الشركات والجامعات العربية أنظمة ذكاء اصطناعي مخصصة للغة العربية، ويُستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل في بعض المجالات مثل تحليل النصوص العربية والتعرف على الكلام العربي. لكن الطريق لا يزال طويلًا لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر فعالية للغة العربية.

 

 

الذكاء الاصطناعي وتحديات الثقافة العربية:

يُثير الذكاء الاصطناعي الفائق بعض المخاوف حول تأثيره على الثقافة العربية. فمن ناحية، يمكن أن يُساهم في نشر المعرفة العربية وتطويرها، ويساعد في التعريف بالثقافة العربية للجمهور العالمي. ولكن من ناحيةٍ أخرى، يمكن أن يُؤثر على هوية الثقافة العربية، وقد يؤدي إلى تفشي الثقافة الغربية على حساب الثقافة العربية.

فمثلا، قد يُستخدم الذكاء الاصطناعي في إنشاء محتوى ثقافي عربي يُقلّد النماذج الغربية، وهذا قد يؤثر على الأصالة والتنوع في المحتوى العربي. كما يمكن أن يُؤثر على قدرة الشباب العربي على الإبداع والتعبير عن أنفسهم بلغتهم العربية، وقد يُفضّل الشباب العربي استخدام لغات أخرى للتواصل مع العالم الخارجي.

 

 

نحو مستقبلٍ أفضل:

يُمكننا تجنب المخاطر والاستفادة من الفرص التي يوفرها الذكاء الاصطناعي من خلال اتخاذ بعض الخطوات الهامة:

تطوير البيانات الرقمية: يجب على الدول العربية أن تُركز على تطوير بنيتها التحتية للبيانات الرقمية، وإنتاج المزيد من البيانات الرقمية باللغة العربية، وخاصة في مجالات مثل الترجمة والتحليل اللغوي.

 

 

دعم البحث والتطوير: يجب على الدول العربية أن تُخصص المزيد من الموارد لبحوث الذكاء الاصطناعي، وأن تُشجع الباحثين على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي مخصصة للغة العربية.

تنمية الكوادر البشرية: يجب على الدول العربية أن تُركز على تعليم وتدريب الشباب على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وأن تُشجعهم على استخدام هذه التقنيات في مجالاتٍ مختلفةٍ، مثل العلوم والتكنولوجيا والفنون.

حماية الهوية الثقافية: يجب على الدول العربية أن تُركز على حماية هويتها الثقافية، وأن تُشجع على الإبداع والتنوع في المحتوى العربي، وأن تُقاوم محاولات فرض الثقافة الغربية على الثقافة العربية.

إننا أمام تحدٍّ كبيرٍ، لكنّنا أيضًا أمام فرصةٍ كبيرةٍ لتحويل الذكاء الاصطناعي الفائق إلى أداةٍ لتعزيز ثقافتنا العربية ولغتنا، ونشرها للعالم، ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل الجاد والمُتواصل من قبل جميع الأطراف، من الحكومات إلى الجامعات إلى الشركات الخاصة إلى الأفراد.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent