إن القضايا القانونية هي كما هي في كل مكان بطابعها الفني والغامض معاً ، ترتبط بشدة بتحديد القوى السياسية وأدائها في المجتمع السياسي ، والسكان في العالم العربي يقيمون وزناً للمحاكم والنظام القانوني في كثير من شئونهم ، وهم في الواقع يلجأون إلى المحاكم بمعدلات عالية تثير الدهشة ، ولقد أصبحت المحاكم كما أصبح النظام القضائي بؤرة صراع سياسي مكثف في العالم العربي احتدم لمدة تزيد عن القرن في بعض الأماكن .
وكتاب " القانون في خدمة من ؟ " تأليف ناثان ج . براون ، وترجمة محمد نور فرحات ، والصادر عن مكتبة الأسرة ، يهتم بدور المحاكم في الحياة الاجتماعية والسياسية في العالم العربي ، لاسيما مصر ، كما أجرى المؤلف بحثاً مبدئياً عن الخليج وضمن إشارات إلى حالات عربية أخرى من أجل الامتداد بالقضايا المطروحة إلى أوسع مدى ممكن .
ويتساءل براون في مطلع الكتاب : لماذا أقدم القادة السياسيون المصريون على إنشاء نظام يبدو للنظرة الأولى على الأقل أنه يحد من سلطاتهم ، ولماذا حافظوا عليه ؟ وقد تكون مصر هي أكثر البلدان العربية التي اقتربت من إنشاء أنظمة قانونية قوية ومستقلة لازمة لسيادة القانون .
ففي ظل وجود المحاكم التي رأت ساحة المتطرفين السياسيين ، وقوضت دعائم برلمان البلاد مرتين ، ينظر إلى النظام القضائي المصري على أنه يتمتع باستقلال وتكامل ملحوظين " رغم أنه ينظر إليه غالباً على أنه نتاج الإملاء الأوروبي " .
لماذا يختار هذا العدد الكبير من المصريين الذهاب بمنازعاتهم إلى المحاكم ؟ إن النظام القانوني المصري له صيت ذائع في كونه نظاماً مربكاً ، مثقلاً بالأحمال ، ومنفراً ، ويوجه إليه النقد لأنه كان غير ملائم ثقافياً عند تأسيسه منذ قرن مضى ، ومنذ نصف قرن مضى سخر منه توفيق الحكيم لكونه نظاماً منهكاً وغير مفهوم من المصريين ، ويوصف النظام اليوم بأنه نظام بطيء مجهد إلى أقصى درجة ، ورغم كل ذلك فإن المحاكم المصرية لم تتمكن فحسب من البقاء ، بل لقد أضحت بصورة متزايدة قبلة المصريين في كل مسارات الحياة .
ويؤكد براون أن بلدان العالم العربي تشترك في أغلبها في وجود تقنينات شاملة ذات طراز أوروبي تتجمع عناصر من القانون الفرنسي والشريعة الإسلامية ، كما أن نظم القضاء متماثلة في قيامها على النماذج القانونية الفرنسية ذات الطابع المركزي الهرمي ، ويمكن تتبع أصل النظام القانوني الحالي بالرجوع إلى الإصلاحات العثمانية التي تستمد أساساً من الشريعة ، ووصل الجهد القانوني العثماني إلى ذروته بصدور مجلة " الأحكام العدلية " بين عامي 1869 ، 1877 والتي كانت تهدف إلى أن تكون إسلامية المضمون ، قائمة من حيث الشكل على قوانين نابليون ، بل إن الإصلاح القانوني الداخلي تواكب بصفة عامة مع انتشار أثر الامتيازات الأجنبية ، وهي سلسلة من الاتفاقات مع القوى الأوروبية .
وخلال القرن التاسع عشر أنشئت في مصر سلسلة من المجالس القضائية مشكلة من الموظفين المحليين ، وأحياناً يكملون بقضاة شرعيين ، وباشرت هذه المجالس عملها بجوار المحاكم الشرعية ، وكانت تستند في أحكامها إلى التشريع الذي صدر محلياً والذي يستند بدوره إلى التشريع العثماني . وفي البلاد العربية كانت المجلة نافذة على الأقل من الناحية النظرية إلى أن سقطت الإمبراطورية العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى ، وحاولت سلطات الوصاية ـ فرنسا في لبنان وسوريا وبريطانيا في العراق والأردن وفلسطين والسودان ـ أن تصوغ النظام القانوني على شاكلة نظمها ، وترسم البريطانيون خطى التجربة الهندية في محاولة لتطعيم المجلة أو غيرها من المصادر بنظام الشريعة العامة الإنجليزي ، ومع الاستقلال عدلت أغلب البلاد تقنيناتها غالباً بمساعدة المصريين واستمرت في المركزية في هياكلها القضائية أو زادت منها .
ويقول براون أسفرت إصلاحات أواخر القرن التاسع عشر عن انطلاق جديد للتطور القانوني المصري ، كما أنها أيضاً أقامت دعائم لبعض الاتجاهات التي أصبحت واضحة في الإصلاحات المبكرة ، ولعقود عدة بُذلت جهود مختلفة لبناء قضاء ذي طابع أكثر مركزية وأكثر هرمية بالإضافة إلى تأكيد التشريع الوضعي ، دون تناقض مع تأثير الشريعة الإسلامية أو إلغاء له .
وجعل الحضور الأوروبي السياسي والمالي المتزايد في مصر خلال القرن التاسع عشر من مسألة الامتيازات والمحاكم القنصلية مسألة بارزة بشكل متصاعد في السياسات والاقتصاد المصرية في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر تنامي إحباط الرسميين المصريين بسبب عجزهم عن تطبيق القانون المدني والجنائي على أنه لم يكن بوسع أحد أن يصف نظام الامتيازات بأنه نظام واضح ورشيد .
كما يؤكد براون أن البريطانيين لم يولوا اهتمامهم لمساءل القانون والعدالة حتى شهور عدة بعد احتلال مصر عام 1882 ، وهرولت حكومة مصر مسستفيدة من التأخير نحو إكمال إقامة المحاكم الأهلية من أجل أن تحفظ المحاكم بعيدة عن سيطرة سلطات الاحتلال ، بل إنه بعد هذه الخطوة لم يركز المحتلون على الأمور القانونية إلا بشكل متقطع حتى نهاية العقد ، وبهذا فقد وجد الإنجليز أنفسهم في مواجهة اثنين من الهياكل القضائية ليسا من صنعهم ، أو حتى مما يروق لهم ، وهما المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية ، ولمدة عقود أربعة من الاحتلال البريطاني ظلت هذه الهياكل ذات أهمية ، بل إن أهميتها قد تنامت رغم المحاولات البريطانية المتعددة للسيطرة عليها .
وبعد اتفاق مونترو على إنهاء الامتيازات الأجنبية وبنقل عمل المحاكم المختلطة إلى المحاكم الأهلية بعد مهلة اثني عشر عاماً ، أصبح ممكناً توحيد الهيكل القضائي الذي خطط له نوبار وآخرون في السبعينيات من القرن التاسع عشر ، وقدر للمحاكم المختلطة التي كان ينظر إليها كقيد عتيق على السيادة المصرية أن تختفي تماماً .
وفي الوقت الذي كانت القوى القومية والمناصرة للمركزية آخذة في إتمام توحيد القضاء ، كانت العديد من هذه القوى منهمكة أيضاً في بناء نظام سياسي وقانوني أكثر ليبرالية ، وفي سنة 1943 كسب القضاء تنازلات هامة من جانب السلطة التنفيذية بزيادة استقلاله المؤسسي في صورة قانون جديد يعدل تنظيمه ، وقبل ذلك بسبع سنوات أعطى قانون ـ يحمل تحديداً عنوان قانون السلطة القضائية ـ للقضاة صوتاً غير ملزم في أمور التعيين والنقل والترقية .
وتدعم هذا بواسطة قانون سنة 1943 الذي أصدرته حكومة الوفد . ثم أضيف مجلس الدولة إلى الهيكل القانوني المصري في سنة 1946 ، وكان بمثابة الاستعارة المباشرة الأخيرة من فرنسا ، رغم أنه في المفهوم ، وفي الممارسة بصفة خاصة سرعان ما انطلقت المؤسسة المصرية في توجه مخالف وأكثر طموحاً من وجوه كثيرة ، عندما أنشئت المحاكم المختلطة في السبعينيات من القرن التاسع عشر لم يكن ثمة توجه نحو محاكم إدارية مستقلة على الطراز الفرنسي ، وبعد أن بدأت المحاكم المختلطة في العمل أصبح من المستحيل تقريباً إنشاء محاكم إدارية مستقلة ؛ فأي تعديلات هامة في بناء المحاكم المختلطة تنطوي على عملية معقدة للحصول على موافقة القوى صاحبة الامتياز والحكومة المصرية ، وبريطانيا بعد 1882 ، وهذه كان لا بد أن يساورها الشك في محاولة تخويل المحاكم، أي ولاية أكبر على الإدارة الداخلية .
ويؤكد براون أن الإصلاح القانوني في دول الخليج العربية في إطار داخلي ودولي مختلف جداً عن ذلك الإطار الذي كان سائداً في مصر خلال القرن الماضي ، كان التأثير الاستعماري في دول الخليج أكبر ، وعلى هذا تزداد أرجحية نظرية القانون المفروض ، وبالإضافة إلى ذلك كانت قوى الشرعية الليبرالية أضعف . وكانت للتجربة التاريخية لمصر خلال القرن الماضي أي مغزى ، فهو إنه لا يمكن أن نفسر مبدئياً تبني النظم القانونية ذات الطراز الأوروبي وأن نفسر الإصلاح القانوني عامة بالحديث عن الإملاء الاستعماري للشرعية الليبرالية .
وإذا كان كل من الاستعمار أو الليبرالية بمثابة قوى كبرى دافعة للإصلاح القانوني في العالم العربي ، فقد كانت النظم الخليجية أكثر استلهاماً للتأثير البريطاني وأقل نزوعاً إلى الليبرالية .
وفي القرن العشرين حدث تغيران هامان في دول الخليج العربي ، أولاً : نجحت بريطانيا العظمى في تأكيد ولايتها على الأجانب غير المسلمين وسلطة التشريع لهم ، ثانياً : أُدخل قدر كبير من الطابع الشكلي والتنظيم التدرجي والتقنين على النظم القانونية التي وجدت فيما سبق ، وكجزء من هذه العملية اختفت الإجراءات القبلية والعرفية أو فقدت نفوذها ، ولم تكن المحاكم الشرعية محصنة كلية من هذه العملية . والواقع أنها وقعت أخيراً ضحية لها في بعض الأماكن ، بما في ذلك الكويت ، وكانت النتيجة أنه قبل وقت قصير من الاستقلال ، وأحياناً بعد وقت قصير منه ،
أصبح لدول الخليج تقنينات مكتوبة ، ومسارات تشريعية محددة ، ومحاكم ذات إطار شكلي بإجراءات مكتوبة واختصاص محدد تحديداً جيداً .
وكانت التقنينات المصرية هي الخيار الواضح لعدد من الأسباب ، أولاً كانت هي التقنينات الشاملة الوحيدة المتاحة باللغة العربية ، وكان هذا جزئياً راجعاً إلى مقاومة الكويت وغيرها من دول الخليج للجهود البريطانية في مجال التقنين ، وثانياً فإن عدداً من رجال القانون المصريين كان قد تم استخدامهم فعلاً في النظام القانوني الكويتي لبعض الوقت ، وثالثاً فإن التقنينات المصرية لكونها قائمة على أساس من التقنينات الفرنسية ، تماثلت كثيراً مع مجلة الأحكام العدلية في الهيكل ، حتى لو اختلفت في المضمون " بما يجعل من تبنيها خطوة أقل راديكالية . وأخيراً فإن البريطانيين رغم النماذج المصرية ، فإنهم نظروا إلى التقنينات المصرية باعتبارها مناسبة وعصرية .