recent
أخبار ساخنة

أزمة الإنسان المعاصر في عصر الحداثة السائلة: بين وهم الحرية وحنين الثبات

 

أزمة الإنسان المعاصر في عصر الحداثة السائلة: بين وهم الحرية وحنين الثبات

أفكار الثقافة وألآدب

في عالم تتسارع فيهالأحداث وتتبدل فيه القيم بسرعة البرق، يجد الإنسان المعاصر نفسه واقفاً على أرضية رخوة، تتأرجح بين رغبته الجامحة في التحرر من كل قيد، وبين حاجته الفطرية العميقة إلى الاستقرار والسكينة. لم يعد السؤال اليوم "كيف نتقدم؟" كما كان في عصر الحداثة الأولى، بل أصبح "كيف نتماسك؟" في ظل طوفان التغيير الذي لا يهدأ.

في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتبدل فيه القيم بسرعة البرق، يجد الإنسان المعاصر نفسه واقفاً على أرضية رخوة، تتأرجح بين رغبته الجامحة في التحرر من كل قيد، وبين حاجته الفطرية العميقة إلى الاستقرار والسكينة. لم يعد السؤال اليوم "كيف نتقدم؟" كما كان في عصر الحداثة الأولى، بل أصبح "كيف نتماسك؟" في ظل طوفان التغيير الذي لا يهدأ.
أزمة الإنسان المعاصر في عصر الحداثة السائلة: بين وهم الحرية وحنين الثبات



أزمة الإنسان المعاصر في عصر الحداثة السائلة: بين وهم الحرية وحنين الثبات

تتناول هذه المقالة بالتحليل العميق مأزق الإنسان في عصر "ما بعد الحداثة"، مسلطةً الضوء على ظاهرتي "النسبية" و**"السيولة"**، وكيف أثرتا على بنية المجتمع والنفس البشرية، وصولاً إلى دور الإيمان كمرسى نجاة وحيد في هذا الطوفان.


من الصلابة إلى السيولة تحولات العالم الغربي وتأثيرها العالمي

لفهم واقعنا اليوم، يجب العودة قليلاً إلى الوراء. خرج العالم الغربي من العصور الوسطى إلى عصر الحداثة (Modernity)، التي قامت على مركزية الإنسان والعقل والعلم، مع استبعاد المرجعية الإلهية. ورغم ماديتها، حافظت الحداثة على نوع من "الصلابة"؛ فقد آمنت بالحقائق العلمية، والقوانين الكونية، والنظريات الفلسفية الكبرى.

لكن النصف الثاني من القرن العشرين شهد انقلاباً جذرياً بظهور ما يُعرف بـ "ما بعد الحداثة" (Post-Modernism). جاءت هذه الحركة كتمرد على كوارث الحداثة (الحروب، التلوث، التفاوت الطبقي)، لكنها بدلاً من إصلاح الخلل، قامت بـ"تسييل" كل شيء. أنكرت وجود حقيقة مطلقة، ورفضت المرجعيات الكبرى، ليتحول العالم إلى كيان سائل لا مركز له، يبحث فيه الفرد عن المعنى في الاستهلاك واللذة اللحظية.

أنياب الحداثة السائلة النسبية والسيولة

لقد أفرزت رغبة الإنسان في التحرر المطلق من الثوابت ظاهرتين خطيرتين تشكلان ملامح حياتنا اليومية:

1. النسبية (Relativism) موت الحقيقة

النسبية هي الوجه الفلسفي لعصرنا؛ فهي تعني باختصار أنه "لا توجد حقيقة واحدة". في هذا المنظور، تصبح القيم الأخلاقية، والمفاهيم الاجتماعية، وحتى الحقائق التاريخية خاضعة لوجهات النظر والسياق.

  • غياب المعيار: ما هو "خير" لك قد يكون "شراً" لغيرك، ولا يوجد مرجع أعلى (دين أو قانون سماوي) للفصل بينهما.
  • القلق الوجودي: عندما تغيب الثوابت، يفقد الإنسان بوصلته. لم يعد الإيمان إطاراً بديهياً يفسر الوجود، بل أصبح خياراً شخصياً وسط سوق من الأفكار المتضاربة، مما يولد قلقاً دائماً وشكاً مستمراً.

2. السيولة (Liquidity) الحياة بلا جذور

إذا كانت النسبية هي الفكر، فإن السيولة هي أسلوب الحياة والتطبيق العملي. يشير مصطلح "السيولة" (الذي صاغه عالم الاجتماع زيجمونت باومان) إلى حالة من اللاستقرار الدائم. لا شيء يبقى على حاله؛ لا الوظائف، لا العلاقات، ولا حتى الهوية. كل شيء قابل للذوبان وإعادة التشكيل.

مظاهر السيولة في حياة الإنسان المعاصر

تغولت السيولة لتشمل كافة مناحي الحياة، ويمكن رصدها في الأبعاد التالية:

أ. السيولة الروحية (Spiritual Fluidity)

تحول الدين في الغرب -وبدأت العدوى تنتقل إلينا- من التزام عقدي راسخ إلى "روحانية انتقائية".

  • التدين كسلعة: أصبح الفرد يتسوق في "سوبر ماركت الروحانيات"؛ يأخذ قليلاً من اليوجا، وقليلاً من علوم الطاقة، مع بعض التأملات البوذية، ليصنع ديناً "مفصلاً" على مقاس رغباته.
  • الهدف: البحث عن "الاسترخاء" و"السلام النفسي" اللحظي، وليس البحث عن الحق أو الالتزام الأخلاقي أمام الخالق. هذا النمط يعفي الإنسان من التكاليف الشرعية والمسؤولية، لكنه يتركه فارغاً من الداخل.

ب. السيولة النفسية (Psychological Fluidity)

يعيش الفرد حالة من التيه الداخلي؛ فالمزاج متقلب، والرغبات متغيرة.

  • الهشاشة: غياب المرجعية يجعل الإنسان عرضة للانهيار أمام أدنى ضغط. السعادة أصبحت مرادفة للمتعة اللحظية، والهروب من الألم هو الهدف الأسمى.
  • الخوف من الفراغ: يهرب الإنسان من مواجهة ذاته عبر الانغماس في وسائل التواصل، لأن الجلوس مع النفس يفتح باب الأسئلة الوجودية المرعبة التي لا يملك إجابة لها في ظل غياب الدين.

ج. سيولة العلاقات الاجتماعية (Social Liquidity)

أصبحت الروابط الإنسانية هشة وقابلة للكسر بضغطة زر "Block" أو "Unfollow".

  • العلاقات العابرة: الخوف من الالتزام (Commitment Phobia) أصبح سمة العصر. الزواج يُنظر إليه كقيد، والأسرة التقليدية تتعرض للتفكك.
  • الحب السائل: حلت العلاقات النفعية والمؤقتة محل الروابط الأبدية. حتى داخل الأسرة الواحدة، خلقت التكنولوجيا عزلة شعورية، حيث يعيش كل فرد في جزيرته الرقمية المنعزلة.

د. السيولة الاقتصادية (Economic Liquidity)

انتهى عصر الوظيفة الدائمة والأمان المادي.

  • اقتصاد المؤقت: هيمنة نظام "الفريلانس" والعقود المؤقتة جعلت المستقبل المالي غامضاً.
  • الاستهلاك القهري: تحولت عملية الشراء من تلبية للحاجة إلى محاولة لملء الفراغ الداخلي. الأسواق تضخ سلعاً مصممة لتفسد سريعاً ليشتري الإنسان غيرها، في دوامة لا تنتهي من الركض وراء الجديد.

هـ. سيولة الهوية (Identity Fluidity)



لعل أخطر ما في السيولة هو ضربها لجوهر "من نحن؟".

  • الهوية كملابس: لم تعد الهوية قدراً (دين، وطن، عائلة)، بل خياراً يمكن تغييره. نرى ذلك في الهوس بتغيير الجنس، أو خلق هويات رقمية مزيفة على الإنترنت لا تمت للواقع بصلة. هذا التذبذب يخلق شخصيات ممسوخة فاقدة للانتماء.

سقوط السرديات الكبرى وأزمة المعنى

تسببت الحداثة السائلة في إسقاط "السرديات الكبرى" (Grand Narratives)؛ وهي القصص الكبرى التي تفسر التاريخ والوجود (كالأديان، أو حتى الأيديولوجيات الكبيرة كالماركسية أو القومية).

  • النتيجة: وجد الإنسان نفسه أمام "شظايا" من الحقائق الصغيرة. لا توجد قصة واحدة تجمع البشر، ولا هدف نهائي يسعون إليه.
  • أزمة المعنى: هنا يكمن الداء الأكبر. الإنسان كائن باحث عن المعنى، وعندما يخبره العالم أن "كل شيء نسبي" وأن "الحياة مجرد صدفة بيولوجية"، فإنه يسقط في بئر العدمية والاكتئاب. الانشغال بالعمل والترفيه ليس إلا "مخدراً" لإسكات صوت الفراغ الداخلي.

وضع العالم الإسلامي المقاومة والمخاطر

يجدر بنا الإشارة إلى أن مجتمعاتنا الإسلامية، بفضل الله، لا تزال تمتلك حصانة نسبية. الدين ليس مجرد طقوس، بل هو "نظام حياة" متجذر. الأسرة لا تزال هي اللبنة الأولى، والقيم الأخلاقية تستمد قوتها من الوحي لا من المنفعة.
ومع ذلك، الخطر قادم. بدأت مظاهر السيولة تتسلل عبر الإعلام ونمط الحياة الاستهلاكي. نرى شباباً يتبنون "أخلاق السيولة" دون وعي، ونرى تفككاً أسرياً متصاعداً، وانتشاراً لمفاهيم الطاقة والروحانيات المشبوهة كبديل عن الأذكار والعبادات.

الحل الإيمان كمركز ثبات في عالم سائل

في مواجهة طوفان السيولة، لا يوجد عاصم إلا "العودة إلى المركز". والإيمان بالله تعالى هو هذا المركز الذي يمنح الإنسان الثبات الذي يحن إليه.

1. الإيمان يمنح المعنى

الإسلام يجيب بوضوح على الأسئلة الوجودية: من خلقني؟ ولماذا؟ وإلى أين المصير؟ هذا اليقين يملأ الفراغ الذي عجزت الحداثة عن ملئه، ويحول الألم إلى ابتلاء له أجر، والحياة إلى مرحلة لها غاية.

2. الثبات لا يعني الجمود

هنا نقطة جوهرية؛ الثبات على العقيدة والأخلاق لا يعني التحجر.

  • المطلق والنسبي: الإسلام يميز بين "الثوابت" (العقيدة، أصول الأخلاق، الفرائض) التي تمثل المرساة، وبين "المتغيرات" (الوسائل، العادات، المعاملات المستحدثة) التي تقبل المرونة والتطوير.
  • التوازن: المؤمن هو كالشجرة الطيبة؛ أصلها ثابت (الإيمان) وفرعها في السماء (التفاعل مع العصر). يمتلك مرونة في التعامل مع التكنولوجيا والتغيرات الاقتصادية، لكنه يزن كل ذلك بميزان الشرع، فلا يذوب في التيار.

3. خطورة "التدين الهجين"

يجب الحذر من نموذج "المتدين الحداثي" الذي يمارس الشعائر (صلاة وصيام) لكن عقله وقلبه متشبعان بقيم السيولة (نفعية، فردانية، تقديس للنجاح المادي بأي ثمن). هذا الانفصام هو أخطر ما يهدد المسلم المعاصر، لأنه يفرغ الدين من مضمونه ويحوله إلى طقس فلكلوري.

الخاتمة الفرار إلى الطمأنينة

إن الوعد الذي قدمته الحداثة بمنح الإنسان حرية مطلقة قد انتهى به إلى عبودية لأهوائه، ووحدة قاسية، وقلق لا ينقطع. لقد أثبتت التجربة البشرية أن الإنسان لا يزدهر إلا إذا كانت له جذور، ولا يطمئن إلا إذا كان له "إله" ومرجعية.

في زمن السيولة، يصبح التمسك بالإيمان فعلاً ثورياً، وملاذاً نفسياً ووجودياً. إنه ليس هروباً من الواقع، بل هو امتلاك للأرضية الصلبة الوحيدة التي تمكننا من الوقوف بثبات، وبناء حياة ذات معنى، وسط عالم يموج بالمتغيرات. "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".




author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent