الفردانية في المجتمعات العربية: جذورها، مظاهرها،
وسبل استعادة الروح الجماعية
قسم: معلومات تهمك
تشهد المجتمعات العربية
والإسلامية في العقود الأخيرة تحولات ثقافية واجتماعية عميقة، لعل أبرزها صعود
نزعة "الفردانية" التي أعادت تشكيل بنية العلاقات الإنسانية، وأنماط
التدين، ومفهوم الهوية. لم تعد الفردانية مجرد سلوك شخصي، بل تحولت إلى مشروع يضع "الفرد"
في مركز الكون كمرجعية نهائية للمعنى والقيمة، مما أدى إلى تآكل الانتماء الجمعي
والشعور بالمسؤولية تجاه الأمة.
في هذا المقال التحليلي،
نغوص في جذور الفردانية في عالمنا العربي، ونستعرض مظاهرها في الدين والمجتمع،
ونناقش دور التكنولوجيا وخطاب الصحة النفسية في تعزيزها، وصولاً إلى سبل تجاوزها
في ظل التحديات الراهنة.
 |
| الفردانية في المجتمعات العربية: جذورها، مظاهرها، وسبل استعادة الروح الجماعية |
الفردانية في المجتمعات العربية: جذورها، مظاهرها، وسبل استعادة الروح الجماعية
الفرق بين الفردانية في الغرب والشرق
لفهم الظاهرة، يجب التمييز
بين نشأتها في السياق الغربي والسياق العربي:
1. السياق الغربي: التطور
الطبيعي
نشأت الفردانية في الغرب
كنتيجة تراكمية لصراعات طويلة ضد سلطة الكنيسة والإقطاع. ساهم الإصلاح
البروتستانتي (مارتن لوثر) في تعزيز العلاقة المباشرة بين الفرد والنص المقدس، ثم
جاءت فلسفة الأنوار (ديكارت، روسو) لتجعل "العقل الفردي" مركز الحقيقة. وتوجت
الثورة الصناعية والرأسمالية هذا المسار بتحويل المجتمع إلى "مجموعة ذرات"
مستقلة تسعى للمنفعة الشخصية.
2. السياق العربي التفكيك
الاستعماري
في المقابل، لم تكن
الفردانية في مجتمعاتنا نتاج تطور داخلي، بل جاءت عبر مسار معقد بدأ مع الاستعمار
الذي عمل ممنهجاً على تفكيك "البنى الاجتماعية الوسيطة" (القبيلة،
الأوقاف، نظام الأحياء التقليدية). تم استبدال هذه المظلات التكافلية بمؤسسات
الدولة الحديثة والسوق الرأسمالية، مما عزل الفرد عن حاضنته الاجتماعية وجعله في
مواجهة مباشرة مع السلطة والسوق، ومعتمداً على "الخلاص الفردي".
مظاهر الفردانية في التدين صعود التدين الفردي
أدت الفردانية إلى تحول جوهري
في مفهوم الدين؛ من نظام قيمي وجماعي شامل (أمة)، إلى تجربة ذاتية وانتقائية (تدين
السوق). ومن أبرز تجليات هذا التحول:
- التدين الروحي (Spirituality): التركيز على "الصفاء
الداخلي" والمشاعر الفردية بعيداً عن الالتزام بالشعائر الجماعية أو
التكاليف الشرعية، تحت شعار "الدين في القلب".
- الإيمان بالطاقة وقانون الجذب: خلط المفاهيم
الدينية بمصطلحات التنمية البشرية والطاقة، حيث تتحول العبادة من "خضوع
لله" إلى "أداة" لتحقيق رغبات دنيوية وجلب الوفرة المالية أو
الراحة النفسية.
- التدين الإنسانوي:
إعادة تأويل الدين ليصبح مجرد منظومة أخلاقية تدعو
للسلام والتسامح (بالمفهوم الغربي)، مع إهمال الجوانب العقائدية والتشريعية،
واعتبار الضمير الفردي هو الحكم الأعلى.
هذا
النمط من التدين يتسم بـ "الانتقائية" و"السيولة"، حيث يفصل
الفرد الدين عن الشأن العام وقضايا الأمة، ويكتفي بما يحقق له الراحة النفسية
الشخصية.
التحولات الاجتماعية من
التراحم إلى التعاقد
انعكست الفردانية بشكل
صارخ على بنية المجتمع والأسرة. يشير المفكر عبد الوهاب المسيري إلى تحول العلاقات
من "التراحمية" إلى "التعاقدية":
- تفكك الأسرة:
انتقل المجتمع من "الأسرة الممتدة" التي توفر
الدعم والتربية الجماعية، إلى "الأسرة النووية" المنعزلة. وحتى
داخل الأسرة النووية، زادت معدلات الطلاق واتسعت الفجوة بين الآباء والأبناء،
حيث يسعى كل فرد لتحقيق ذاته بعيداً عن "قيود" العائلة.
- العلاقات النفعية:
تراجعت قيم الجوار والتكافل والتطوع (العلاقات
التراحمية) لصالح علاقات قائمة على المصالح المادية المتبادلة (العلاقات
التعاقدية). أصبح الآخرون يُقيّمون بناءً على ما يقدمونه من منفعة، لا بصفتهم
إخوة في الدين أو الإنسانية.
محركات
الفردانية المعاصرة التكنولوجيا والنفس
تتغذى النزعة الفردانية
اليوم عبر محركين رئيسيين يؤثران بقوة على الأجيال الصاعدة:
1. وسائل التواصل
الاجتماعي (فخ النرجسية)
تعمل منصات التواصل
الاجتماعي وخوارزمياتها على حبس المستخدم في "فقاعة" من الاهتمامات
الشخصية، مما يعزز العزلة الشعورية والفكرية. كما تروج لثقافة "المؤثرين"
وقصص النجاح الفردي، مما يضخم "الأنا" ويجعل محور الحياة هو استعراض
الذات والحصول على الإعجاب، مع تهميش الواقع الاجتماعي الحقيقي.
2. خطاب الصحة النفسية (الهشاشة
والضحية)
انتشرت مصطلحات علم النفس (نرجسي،
توكسيك، صدمة، اكتئاب) بشكل مفرط وغير علمي في الخطاب اليومي. أدى ذلك إلى:
- التمحور حول الذات:
اعتبار الفرد نفسه "ضحية" دائمة للمجتمع
والأهل.
- قطع العلاقات:
سهولة التخلي عن الأقارب والأصدقاء بحجة "حماية
السلام النفسي" واعتزال "الأشخاص السامين"، مما يبرر الأنانية
ويضعف الصبر والتحمل اللازمين لاستمرار العلاقات البشرية.
سبل
تجاوز الفردانية نحو استعادة الجسد الواحد
إن استعادة التوازن في
مجتمعاتنا لا يعني رفض الحداثة، بل يعني رفض "تأليه الفرد" وإعادة
الاعتبار للقيم الجماعية التي تضمن تماسك المجتمع وقوته. يمكن تحقيق ذلك عبر
المسارات التالية:
أولاً: إحياء السنن
الاجتماعية والقيم الدينية
يجب التأكيد على أن
الإسلام دين "جماعي" في جوهره؛ فالعبادات (صلاة الجماعة، الحج، الزكاة) والمعاملات
(الأمر بالمعروف، صلة الرحم) مصممة لربط الفرد بالجماعة. يجب إدراك أن "سنة
النصر" و"سنة التغيير" لا تتحقق إلا بجهد جماعي منظم، لا بمحاولات
فردية معزولة.
ثانياً: إعادة بناء الجماعات
الوسيطة
الحل العملي يكمن في ترميم
الشبكات الاجتماعية التي تهدمت. نحتاج إلى تفعيل دور:
- الأسرة الممتدة:
إعادة وصل ما انقطع من صلات الرحم.
- المسجد والمؤسسات التعليمية: لتكون محاضن تربوية
تعزز روح الفريق والمسؤولية الاجتماعية.
- العمل التطوعي:
الانخراط في الجمعيات والمبادرات الأهلية لكسر حاجز
العزلة وتذوق لذة العطاء.
ثالثاً:
الدرس الفلسطيني.. الانخراط في قضايا الأمة
قدمت أحداث "طوفان
الأقصى" وما تلاها في غزة نموذجاً عملياً مذهلاً في إسقاط الفردانية. في غزة،
ذابت "الأنا" أمام المصلحة العامة، وتجلى مفهوم "الجسد الواحد"
في أبهى صوره عبر تقاسم المأوى والطعام والصبر الجماعي.
إن الانخراط الشعوري والعملي في قضايا الأمة الكبرى
هو العلاج الأنجع للأنانية؛ فهو يمنح الفرد "معنى" يتجاوز ذاته الضيقة،
ويشعره بأنه جزء من كيان عظيم وممتد.
خاتمة
الفردانية في مجتمعاتنا
ليست قدراً محتوماً، بل هي حالة طارئة ناتجة عن ظروف تاريخية وثقافية معينة. إن
مواجهة طوفان "التمركز حول الذات" و"الاستهلاك المادي" يتطلب
وعياً عميقاً بأهمية العودة إلى الجذور التراحمية لديننا وثقافتنا.
إن الطريق إلى الصحة
النفسية الحقيقية والسعادة الدنيوية والأخروية لا يمر عبر الانعزال داخل الذات، بل
عبر الانفتاح على الآخرين، وتحمل مسؤولية الإصلاح، والعيش كجزء فاعل في جسد الأمة
الحي.