مفهوم نهاية التاريخ بين عبد الوهاب المسيري
وفرانسيس فوكوياما: دراسة مقارنة ورؤية نقدية
يُعد مصطلح "نهاية التاريخ" أحد أكثر
المفاهيم إثارة للجدل في الفلسفة السياسية المعاصرة. ورغم أن المصطلح ارتبط
عالمياً باسم المفكر الأمريكي "فرانسيس فوكوياما" عقب انهيار الاتحاد
السوفيتي، إلا أن الفكر العربي قدم قراءة مغايرة وأكثر عمقاً وتنبؤاً على يد
العالم الموسوعي "عبد الوهاب المسيري". في هذا المقال، نستعرض مقارنة
تفصيلية بين رؤية المسيري النقدية ورؤية فوكوياما الليبرالية، ونحلل كيف تحولت هذه
الفكرة من نبوءة سياسية إلى أداة للهيمنة الثقافية.
 |
| مفهوم نهاية التاريخ بين عبد الوهاب المسيري وفرانسيس فوكوياما: دراسة مقارنة ورؤية نقدية |
مفهوم نهاية التاريخ بين عبد الوهاب المسيري وفرانسيس فوكوياما: دراسة مقارنة ورؤية نقدية
ما هو مفهوم نهاية التاريخ؟
قبل الولوج في المقارنة،
يجب تعريف نهاية التاريخ (End of History)
فلسفياً؛ فهي ليست فناء العالم أو يوم القيامة، بل هي
حالة افتراضية يصل فيها التطور البشري إلى نظامه الأمثل (سواء كان سياسياً،
اقتصادياً، أو اجتماعياً)، بحيث لا يعود هناك مجال لظهور بديل أفضل. في هذه
الحالة، يصبح التاريخ "سكونياً"، وتتوقف الصراعات الأيديولوجية الكبرى،
ويسود نموذج واحد يُعمم على البشرية جمعاء.
أولاً نهاية التاريخ في فكر عبد الوهاب المسيري (تفكيك المادية الغربية)
بدأ الدكتور عبد الوهاب
المسيري الحديث عن "نهاية التاريخ" منذ منتصف الستينيات، أي قبل
فوكوياما بعقدين من الزمان. بالنسبة للمسيري، لم تكن نهاية التاريخ انتصاراً
للديمقراطية، بل كانت
"أزمة وجودية" ناتجة عن
تغول الفلسفة المادية.
1. الإنسان الطبيعي مقابل
الإنسان التاريخي
فرق المسيري بين نموذجين
من البشر:
- الإنسان الرباني (المركب):
وهو الإنسان الذي يحمل نفخة من الروح، يتميز بالتجاوز،
الأخلاق، والخصوصية الثقافية.
- الإنسان الطبيعي المادي:
وهو إنسان "نهاية التاريخ" الذي تذوب
ملامحه في الحركة الاقتصادية، ويتحول إلى كائن استهلاكي لا يشغله سوى إشباع
حاجاته البيولوجية والمادية.
2. الإيقاع الثلاثي والنظام العالمي الجديد
يرى المسيري أن نهاية
التاريخ تتجسد في سيطرة "إيقاع ثلاثي" على حياة البشر:
- المصنع:
حيث يتم اختزال الإنسان في وظيفة الإنتاج.
- السوق:
حيث يتحول الإنسان إلى مجرد وحدة استهلاكية.
أماكن الترفيه:
حيث يتم تفريغ الطاقة البشرية في متفرقات حسية لا
عمق لها.
هذا الإيقاع يلغي "الذات المتماسكة" ويجعل
العالم كله قرية واحدة محكومة بقوانين المادة الصماء، مما يؤدي إلى "نهاية
الإنسان" ككائن ذي غاية ورسالة.
3. المجتمعات الاستيطانية ونهاية التاريخ
قدم المسيري قراءة عبقرية
بربط المفهوم بالصهيونية والولايات المتحدة؛ فالمجتمعات الاستيطانية هي أكثر
المجتمعات سعياً لإعلان "نهاية التاريخ". لماذا؟ لأنها تريد إنكار تاريخ
السكان الأصليين (مثل الهنود الحمر في أمريكا أو الفلسطينيين في فلسطين) واعتبار
الأرض "أرضاً بلا شعب" أو "أرضاً عذراء"، لتبدأ تاريخاً
جديداً يبدأ وينتهي عندها، وهو ما أسماه المسيري "اليوتوبيا التكنولوجية"
التي تحل فيها المادة محل الإنسان.
ثانياً نهاية التاريخ عند فرانسيس فوكوياما (نبوءة الانتصار الليبرالي)
في عام 1989، نشر فوكوياما
مقاله الشهير الذي تحول لاحقاً إلى كتاب "نهاية التاريخ
والإنسان الأخير". انطلق
فوكوياما من لحظة نشوة الغرب بانتصار الرأسمالية وسقوط جدار برلين.
1. الديمقراطية الليبرالية
كخاتمة للمطاف
يرى فوكوياما أن البشرية
جربت كافة الأنظمة (الملكية، الفاشية، الشيوعية، الحكم الثيوقراطي) وفشلت كلها في
تحقيق التوازن بين الرغبة في الاعتراف وبين الاستقرار الاقتصادي، باستثناء الديمقراطية الليبرالية.
لذا، اعتبرها "منتهي التطور الأيديولوجي للإنسانية".
2. عالمية النموذج الغربي
افترض فوكوياما أن العالم
سيتجه بالتدريج نحو "التجانس الثقافي والسياسي". فالقيم الغربية (الحرية
الفردية، اقتصاد السوق، سيادة القانون) ليست قِيماً محلية، بل هي قيم عالمية ستقبل
بها كل الشعوب عاجلاً أم آجلاً، مما سينهي الحروب الكبرى والصراعات الأيديولوجية
التي كانت تحرك التاريخ.
3. الإنسان الأخير
استلهم فوكوياما مفهوم "الإنسان
الأخير" من نيتشه، وهو الإنسان الذي يعيش في أمان ورفاهية في ظل الديمقراطية،
لكنه قد يفتقد للطموح "العظيم" أو القضايا الكبرى التي كان يقاتل من
أجلها، وهو الثمن الذي يجب دفعه مقابل السلام العالمي.
ثالثاً أوجه الاختلاف الجوهرية بين الرؤيتين
|
وجه
المقارنة
|
رؤية المسيري
|
رؤية فوكوياما
|
|
المنطلق
|
نقد المادية وتفكيك الحداثة
الغربية.
|
تمجيد الليبرالية والتبشير بمركزية
أمريكا.
|
|
طبيعة النهاية
|
نهاية "إنسانية" الإنسان
وتحويله لآلة.
|
نهاية "الصراع" الأيديولوجي
والحروب.
|
|
القيم
|
يؤكد على الخصوصية الثقافية والبعد
الروحي.
|
يؤكد على عالمية القيم الغربية
وتجانس العالم.
|
|
النتيجة
|
خطر يهدد البشرية بالنمذجة والآلية.
|
إنجاز بشري يمثل قمة النضج السياسي.
|
رابعاً نقد نظرية فوكوياما (لماذا لم ينتهِ التاريخ؟)
واجهت أطروحة فوكوياما
انتقادات لاذعة من مفكرين غربيين وعرب، ويمكن تلخيص هذه الانتقادات في النقاط
التالية:
- إهمال دور الاستعمار:
لم يتطرق فوكوياما إلى أن انتشار الليبرالية لم يكن
دوماً خياراً شعبياً، بل فُرض أحياناً عبر الإمبريالية والقوة العسكرية.
- تجاهل الخصوصيات الثقافية:
انتقد الكثيرون (ومنهم صموئيل هانتنجتون صاحب "صدام
الحضارات") فوكوياما لتجاهله قوة الثقافات الأخرى، وخاصة الإسلام والصين، اللذين لا يريان في النموذج الليبرالي الغربي نهاية للمطاف.
- نقد جاك دريدا:
وصف الفيلسوف الفرنسي تفكيكي الشهير نظرية فوكوياما
بأنها "حيلة أيديولوجية" تهدف لبث الثقة في الذات الغربية المهتزة،
مؤكداً أن الديمقراطية الليبرالية مليئة بالتصدعات الهيكلية.
- رؤية سمير أمين:
رأى المفكر الماركسي سمير أمين أن فوكوياما قام بـ"تأليه"
قوانين السوق، محولاً إياها من وسيلة اقتصادية إلى عقيدة دينية جديدة تدعي
الأبدية.
خامساً هل التاريخ مستمر أم ساكن؟
بعد مرور أكثر من ثلاثة
عقود على أطروحة فوكوياما، يثبت الواقع العالمي (بحروبه الجديدة، صعود القوى
الشرقية، والأزمات الاقتصادية المتلاحقة) أن التاريخ لم ينتهِ. وهنا تبرز قيمة رؤية عبد الوهاب المسيري؛ الذي لم يغتر
بالمظاهر السياسية، بل غاص في الجوهر المعرفي، محذراً من أن "نهاية التاريخ"
الحقيقية هي اللحظة التي يفقد فيها الإنسان إرادته لصالح الاستهلاك والتكنولوجيا.
خاتمة:
إن المقارنة بين المسيري وفوكوياما هي في جوهرها
مقارنة بين من يرى الإنسان "روحاً وعقلاً وحرية" وبين من
يراه "صوتاً انتخابياً
ومستهلكاً في سوق". وبينما
حاول فوكوياما إغلاق باب التاريخ على النموذج الأمريكي، فتح المسيري عيوننا على أن
التاريخ سيظل مفتوحاً ما دام الإنسان قادراً على التجاوز والتمسك بخصوصيته
الأخلاقية والروحية.