# جاك رانسيير وفلسفة "سوء الفهم": السياسة كمأسسة للنزاع وتفكيك لأوهام الإجماع
يعتبر الفيلسوف الفرنسي
جاك رانسيير (Jacques Rancière، مواليد 1940) أحد أبرز الأصوات النقدية
في الفلسفة السياسية المعاصرة، حيث سخّر مساره الفكري لإعادة تعريف المفاهيم
الأساسية للسياسة والديمقراطية بعيداً عن الرؤى التقليدية التي تختزل السياسة في
الإدارة أو الإجماع. يتجسد هذا المسعى بوضوح في عمله المحوري "سوء الفهم" (La Mésentente)، الذي صدرت منه طبعة جديدة حديثاً (2025)،
مؤكداً على راهنيته الفائقة بعد مرور ثلاثة عقود على صدوره الأول عام 1995.
![]() |
# جاك رانسيير وفلسفة "سوء الفهم": السياسة كمأسسة للنزاع وتفكيك لأوهام الإجماع |
- يقدم رانسيير في هذا الكتاب أطروحة جريئة: **السياسة لا تقوم على التفاهم بل على "سوء الفهم"
- المؤسِّس**. إنها ليست سعياً نحو الوفاق السلمي، بل هي التمأسس الدائم للنزاع حول من يحق له أن
- يُرى وأن يُسمَع صوته في الفضاء العام.
## إعادة تعريف السياسة سلطة "الذين لا نصيب لهم"
تاريخياً، ارتبطت
السياسة (كما عرفها أرسطو) بالإنسان بوصفه كائناً ناطقاً قادراً على تمييز العدل
من الظلم. لكن رانسيير يقلب هذه النظرة رأساً على عقب، مشيراً إلى أن نشأة السياسة
لم تأتِ من الإجماع على معنى مشترك، بل من **المفارقة** بين الذين سُمح لهم
بالكلام (القادرون على التمييز) والذين حُرموا من التعبير (المهمشون الذين شكلوا
بغالبيتهم "الشعب").
- بالنسبة لرانسيير، فإن السياسة الحقيقية هي **الفعل الذي يقطع النظام القائم** (النظام الشرطي). هي
- ليست إدارة شؤون المدينة أو توزيع الخيرات بين مكوناتها المعترف بها، بل هي **سلطة
- "الشعب"**،
أي سلطة "الذين لا يملكون نصيباً" في توزيع الأدوار والمناصب.
> "السياسة، في
جوهرها، ليست توافقاً بل نزاعاً حول من يحق له الكلام ومن يُسمَع كلامه."
في هذا الإطار، يُعرّف رانسيير السياسة بأنها: **اللحظة التي يدخل فيها المستبعدون (الذين صُنّف كلامهم كـ"ضجيج") إلى الفضاء العام مطالبين بالاعتراف بهم كأنداد متساوين**، كاشفين بذلك عن "الكذب الأصلي" الكامن في أساس النظام الاجتماعي القائم.
## النظام الشرطي مقابل الفعل السياسي دور "سوء الفهم"
للتفريق بين الإدارة
والسياسة، يستحضر رانسيير مفهومين متناقضين:
### 1. النظام الشرطي (Police Order):
هو المنطق الذي يسود في
غياب السياسة. وظيفته الأساسية هي التوزيع الحسي للأدوار والمواقع: يحدد من يرى
ومن يتكلم ومن يُسمَع صوته في المدينة. إنه نظام يهدف إلى الوضوح والانسجام التام،
مقصياً كل اختلاف باسم "النظام". النظام الشرطي لا يعني بالضرورة نظاماً
ديكتاتورياً، بل يشمل كل شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الذي يتجنب الكشف عن سوء
الفهم (أي النزاع حول المساواة).
### 2. الفعل السياسي (The Political Act):
هو ما يحدث عندما يكسر "الذين
لا نصيب لهم" هذا التوزيع الحسي، ويجعلون أنفسهم مرئيين ومسموعين. إنه فعل المساواة المفاجئ الذي يحدث في لحظة المطالبة، حيث يستند المهمش على مبدأ المساواة
القائم في أساس الجماعة الديمقراطية ليُظهر أن هذا المبدأ قد تم انتهاكه.
- إن السياسة هي التجسيد العلني لهذا **النزاع الوجودي** بين النظام الذي يدعي الشمول (النظام
- الشرطي) والفئة المستبعَدة التي تكشف زيف هذا الشمول. وبناءً عليه، فإن **"سوء الفهم" هو التعبير
- عن هذا النزاع المؤسَّس**، وليس مجرد فشل في التواصل؛ إنه اللحظة التي يُدرك فيها أن هناك
- خلافاً حول ماهية المشترك نفسه.
## الفلسفة السياسية بين الأرشيف والزيف والتعرية
انطلاقاً من هذا
التحديد للسياسة، يحلل رانسيير تاريخ الفلسفة السياسية في ثلاث صور رئيسية، كل
منها تمثل طريقة مختلفة للتعامل مع هذا النزاع:
### 1. السياسة الأصلية
أو "في أعلى مستوياتها"
(Archi-politique)
يرتبط هذا النموذج
بالرؤية الأفلاطونية التي سعت إلى إلغاء السياسة بجوهرها النزاعي. غايتها كانت
بناء المجتمع المثالي حيث يتحدد موضع كل فرد في النظام الاجتماعي بدقة، وتتطابق
الوظائف مع الأفراد، ليتحقق الانسجام التام ويزول النزاع (سوء الفهم).
### 2. السياسة الزائفة
والموازية (Para-politique)
تشير إلى أشكال التنظيم
الاجتماعي التي تحاكي السياسة لكنها لا تمارسها بالمعنى الديمقراطي الحقيقي. هذا
الشكل يفرض النظام ويضبط الاختلافات بطريقة تبدو سياسية، لكنها في الواقع تستبعد المشاركة
والمساواة الفعلية، وتعمل على تحويل السياسة من فعل للمساواة إلى مجرد شكل من
أشكال السلطة والإدارة.
### 3. ما بعد السياسة (Méta-politique)
هذا هو التوجه الذي
يركز على فضح زيف السياسة وإدانة "الكذب الاجتماعي" الذي يقوم عليه "النظام
الشرطي". يمثل الماركسيون نموذجاً لهذا الاتجاه؛ فقد أشاروا إلى وجود طبقة
عاملة منسيّة (أصحاب "لا نصيب") وكشفوا عن المصالح الخفية للأنظمة. ومع
ذلك، يرى رانسيير أن هذا الاتجاه غالباً ما يقع في فخ تحويل المجتمع إلى بناء نظري
خالٍ من الطبقات والنزاعات، يسعى بدوره إلى استعادة الانسجام الكلي بين الواقع
والنظام.
## أزمة ما بعد الديمقراطية ونهاية الفعل السياسي
يخصص رانسيير جزءاً
كبيراً من نقده للتحولات التي شهدتها المجتمعات الغربية المعاصرة، خصوصاً بعد صعود
خطاب العولمة والانتصار المزعوم للديمقراطية التوافقية. يشير إلى أننا نعيش في **"مجتمع
ما بعد ديمقراطي"** حيث يتم تصفية السياسة لصالح الإدارة.
في هذا المجتمع:
1. **قضاءنة السياسة
(Judiciarisation):** يتم تحويل النزاعات السياسية
والاجتماعية إلى قضايا قانونية وقضائية، مما يطوق الفعل السياسي داخل أطر مؤسساتية
تضبط الخلاف بدل أن تفتحه للنقاش الشعبي.
2. **منطق التوافق:** يتم الاستعاضة عن الصراع بمنطق توافقي يُعلي
من شأن المنفعة العامة ويقوي موقع الدولة والأجهزة الإدارية والقضائية على حساب
المشاركة الشعبية والاعتراض.
يرى رانسيير أن هذا
المنطق الساعي إلى نفي النزاع ينتج نتائج متناقضة وخطيرة، أبرزها ظهور أشكال جديدة
من الإقصاء والعنف. فحين يُلغى النزاع السياسي ويُفرض الانسجام قسراً، يتحول
الاختلاف من محرك للسياسة إلى **تهديد بيولوجي أو ثقافي** للنظام.
### العنصرية كأداة للانسجام القاتل
إن المجتمع الذي يسعى
إلى وحدة منسجمة بين الواقع والنظام، يجد نفسه مضطراً للبحث عن "خارج" يتم
تحميله مسؤولية التوترات. هنا تظهر **العنصرية**، التي ليست نقيض السياسة، بل
أداتها النهائية لرسم الهوامش. فالمهاجر، الذي ربما كان جزءاً من صراع الطبقات
السياسية سابقاً، يُصوَّر اليوم كـ"سبب للبطالة" أو "تهديد للهوية"،
أي يتحول الاختلاف السياسي إلى **اختلاف طبيعي** غير قابل للتفاوض أو التمأسس.
## أهمية قراءة رانسيير اليوم
إن "سوء الفهم"
لجاك رانسيير ليس مجرد تمرين في النقد الفلسفي، بل هو دعوة لإعادة التفكير في
الأساس الحقيقي للديمقراطية. في زمن تتكاثر فيه الخطابات المهيمنة ويُقصى فيه
كثيرون من حق التعبير، يعيدنا رانسيير إلى حقيقة مفادها أن:
السياسة ليست
إدارة للعالم، بل هي فعل إنشاء للعالم، حيث يمنح سوء الفهم أولئك الذين لا يُعترَف
بهم القدرة على الكلام باسم الجميع، وتحويل "الضجيج" إلى "كلام"
ذي معنى.
فى الختام
تبرز ضرورة قراءة هذا
العمل اليوم لأنه يذكرنا بأن العدالة ليست نتيجة التفاهم السلس، بل هي نتيجة شجاعة
المستبعدين في **تقاسم القول والرؤية**، والاعتراف بأن الاختلاف ليس عائقاً أمام
الحقيقة، بل هو شرطها الجوهري.