**"النفس والرواية": جسر معرفي بين سيكولوجيا الأعماق وفضاءات السرد الأدبي**
في مشهد ثقافي عربي متعطش للدراسات البينية التي
تتجاوز الحدود التقليدية للتخصصات، يبرز كتاب "النفس والرواية" للروائي
والباحث السعودي عبد الله الوصالي كإضافة نوعية تسعى لردم الهوة وتأسيس جسر معرفي
متين بين عوالم علم النفس الحديث، وبخاصة فتوحات علم الأعصاب، وبين الفضاءات
الرحبة للسرد الأدبي. يقع الكتاب الصادر حديثًا في 286 صفحة من القطع المتوسط،
مقدمًا للقارئ رحلة استكشافية عميقة في أغوار العلاقة الجدلية والتفاعلية بين
النفس البشرية وإنتاجها الإبداعي المتمثل في الرواية.
![]() |
**"النفس والرواية": جسر معرفي بين سيكولوجيا الأعماق وفضاءات السرد الأدبي** |
مجرد تسلية
لم يعد الأدب، والرواية على وجه الخصوص، مجرد
تسلية عابرة أو انعكاس سطحي للواقع. بل هو مختبر إنساني شاسع تتجلى فيه أعقد
العمليات الذهنية والنفسية، سواء لدى المبدع الذي يشيد عوالمه المتخيلة وشخصياته
المركبة، أو لدى المتلقي الذي يتفاعل مع هذه العوالم، فيتماهى أحيانًا، ويتعاطف
أحيانًا أخرى، أو حتى ينفر ويقاوم. من هذا المنطلق، يستثمر الوصالي أحدث
الاكتشافات في مجال علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب ليقدم تفسيرات علمية لظواهر
لطالما اعتُبرت جزءًا من "سحر الأدب" أو "غموض الإبداع".
- يستهل الكتاب رحلته بالتأكيد على أن الفهم العميق للآليات التي تحكم السلوك الإنساني، والإدراك
- والعاطفة، والذاكرة، يمكن أن يضيء جوانب خفية في عملية الكتابة الروائية وفي تجربة القراءة.
- فالكاتب لا ينطلق من فراغ، بل هو نتاج بيئته وتجاربه وتكوينه النفسي، وهذه العوامل، سواء بوعي
- منه أو بدون وعي، تتسرب إلى نسيج نصه الروائي، وتتشكل في هيئة شخصيات وأحداث
- وصراعات. بالمثل، فإن القارئ ليس صفحة بيضاء، بل هو كائن محمل بتاريخه الشخصي وبناه
- المعرفية
والعاطفية التي تؤثر بشكل مباشر في كيفية استقباله للنص وتأويله.
**بنية الكتاب ومنهجيته تزاوج النظرية والتطبيق**
ينقسم الكتاب بشكل رئيسي إلى قسمين متكاملين،
يعكسان منهجية الوصالي في الانتقال من التنظير إلى التطبيق. القسم الأول، المعنون
بـ"العقل في المجتمع"، يضع الأساس النظري للعمل، حيث يبسط المؤلف بأسلوب
رشيق وواضح للقارئ غير المتخصص آليات عمل الدماغ البشري وفسيولوجيا العقل، وكيف
تؤدي هذه الآليات إلى بروز تكيفات سلوكية وظواهر نفسية واجتماعية معقدة. هذا القسم
لا يهدف إلى تقديم درس أكاديمي جاف في علم الأعصاب، بل ينتقي بعناية تلك المفاهيم
والاكتشافات التي لها صلة مباشرة بفهم الإبداع الأدبي وتلقيه.
- أما القسم الثاني، "العقل في النص"، فيمثل الجانب التطبيقي والجوهري من الدراسة. هنا، ينتقل
- الوصالي من العام إلى الخاص، حيث يعامل النصوص السردية باعتبارها "مجتمعًا موازيًا" للواقع
- يمكن من خلاله اختبار الفرضيات والنظريات التي طرحها في القسم الأول. ولتحقيق هذا الهدف
- يستعين المؤلف بتشكيلة واسعة ومتنوعة من الأعمال الأدبية، تشمل السير الذاتية والروايات الخيالية،
- وتتوزع بين الأدب العربي والأدب العالمي. هذا التنوع في النماذج المختارة يضفي على التحليل ثراءً
- وعمقًا، ويسمح بتعزيز الافتراضات
المطروحة عبر سياقات ثقافية ولغوية مختلفة.
**قضايا محورية في صلب النقاش**
يتناول الكتاب عبر فصوله المتعددة طيفًا واسعًا
من القضايا التي تقع في صميم العلاقة بين النفس والأدب. من بين العناوين الداخلية
اللافتة نجد: "النفس وأعطاب النفس"، حيث يُحتمل أن يناقش المؤلف كيف
تتجلى الاضطرابات النفسية أو الصدمات في بناء الشخصيات الروائية أو حتى في دوافع
الكاتب نفسه. ويثير عنوان "التكيفات الإدراكية والسرد الأدبي" تساؤلات
حول كيف تشكل قدراتنا الإدراكية (كالانتباه والذاكرة وحل المشكلات) الطريقة التي
نبني بها القصص ونفهمها.
- وتحظى ظاهرتان نفسيتان مركزيتان باهتمام خاص، وهما "التقمص" و"التعاطف". ففصل مثل
- "التقمص والقراءة الفاعلة" يغوص في الآلية التي تجعل القارئ يتقمص شخصية ما في الرواية
- ويعيش مشاعرها وأفكارها، وكيف يسهم هذا التقمص في جعل تجربة القراءة أكثر عمقًا وتأثيرًا. هذا
- يرتبط بشكل وثيق بمفهوم "التعاطف" الذي يمكن للأدب أن ينميه، وهو قدرة الفرد على فهم مشاعر
- الآخرين ومشاركتهم إياها، وهي مهارة أساسية للحياة
الاجتماعية السليمة.
كما لا يغفل الكتاب الجوانب الأكثر قتامة من التجربة الإنسانية، كما يتضح من عناوين مثل "اعتلالات النفس والسرد الأدبي" و"الفصام والسرد الذهاني"، مما يشير إلى استكشاف كيف تعكس الرواية، أو حتى كيف يمكن أن تنشأ من، حالات نفسية معقدة أو مضطربة.
ومن العناوين المثيرة للتأمل "الجثة الثرثارة والتناظر الذاتي" و"سرد الأطباء والزمن الذهني"، وهي عناوين توحي بتحليلات مبتكرة لنماذج سردية محددة من منظور نفسي.
**إضافة للمشهد النقدي**
يؤكد الوصالي أن كتابه لا يهدف إلى إلغاء
المناهج النقدية الأدبية القائمة أو التقليل من شأنها، بل يسعى إلى أن يكون إضافة
تثري المشهد النقدي العربي بأدوات تحليلية جديدة ومقاربات مستمدة من حقول معرفية
أخرى. إن هذا التوجه نحو "الدراسات البينية"، كما يصفه الناشر، هو ما
يميز هذا العمل ويجعله مساهمة قيمة في فهم أعمق للأدب ودوره في حياة الإنسان.
- يُذكر أن هذا الكتاب يمثل أول incursions الوصالي في عالم النقد الأدبي بعد مسيرة حافلة في الكتابة
- الإبداعية، تضمنت أربع روايات وثلاث مجموعات قصصية، بالإضافة إلى كتاب مترجم حول تأثير
- الأدب في الدماغ، مما يشير إلى اهتمام قديم وعميق بتقاطعات الأدب وعلم النفس.
في الختام
يقدم "النفس والرواية" دعوة
للقراء والنقاد على حد سواء لإعادة النظر في الأدب من خلال عدسة علم النفس الحديث،
ليس فقط كأداة تحليلية، بل كوسيلة لفهم أعمق للذات الإنسانية وللعالم الذي نعيش
فيه. إنه كتاب يَعِدُ بفتح آفاق جديدة في قراءة النصوص وتأويلها، وفي فهم العملية
الإبداعية ذاتها، مؤكدًا أن الأدب والنفس وجهان لعملة واحدة هي التجربة الإنسانية
في ثرائها وتعقيدها.