### **«وادي الفراشات»: صرخة المهمشين في أدب أزهر جرجيس**
في المشهد الروائي العراقي المعاصر، الذي طالما
كان مرآةً للتاريخ الدامي والتحولات الاجتماعية القاسية، يبرز اسم أزهر جرجيس
كصوتٍ فريد، يمتلك القدرة على تحويل المأساة إلى مادة للسخرية السوداء، وتفكيكالألم الإنساني عبر لغة تجمع بين البساطة الظاهرية والعمق الدلالي. تأتي روايته
الجديدة «وادي الفراشات»، الصادرة عن دار الرافدين ومسكيلياني، لتؤكد على هذا
المسار وتتعمق فيه، مقدمةً عملاً أدبياً بالغ التأثير، يضع الإنسان العراقي المنسي
في قلب السرد، ويستنطق جراح مجتمع بأكمله.
![]() |
### **«وادي الفراشات»: صرخة المهمشين في أدب أزهر جرجيس** |
الرواية
تنطلق الرواية من حكاية "عزيز"، البطل الإشكالي الذي يمثل أيقونة لجيلٍ كامل من العراقيين الذين سُحقت أحلامهم تحت وطأة الحصار الاقتصادي والانهيارات المتتالية. عزيز ليس بطلاً بالمعنى التقليدي، بل هو "ضد البطل" (Anti-hero) بامتياز؛ مثقف، قارئ نهم
- عاشق للمسرح والكتب، لكنه في الوقت ذاته شخصية مستلبة الإرادة، تدفعها الأقدار والمصادفات من
- فشل إلى آخر. يرسم جرجيس من خلاله صورة دقيقة لتآكل الطبقة الوسطى في العراق، تلك الطبقة
- التي كانت حاملة لواء الثقافة والتنوير
وكيف تحولت أحلام أبنائها من تحقيق الذات إلى مجرد السعي للبقاء على قيد الحياة. تبدأ رحلة سقوطه بفقدانه وظيفته الحكومية، مروراً بزواجه المتعثر من "تمارا" التي تمثل الشغف والخيبة في آن واحد، وصولاً إلى مهنته الأخيرة كسائق سيارة لنقل الموتى، وهي المهنة التي ستفتح أمامه أبواب الجحيم الأرضي والنعيم الرمزي معاً.
الخلفية المأزومة
على هذه الخلفية المأزومة، تتناثر شخصيات الرواية لترسم بانوراما مصغرة للمجتمع العراقي المتداعي. فهناك الصديق "مهند" الذي يجد في استغلال الدين تجارة رابحة، ليجسد صعود الانتهازية الدينية على أنقاض القيم المدنية. وهناك الأخ المتسلط
- الذي يمثل صورة مصغرة للسلطة القمعية التي تمارس سطوتها حتى داخل الأسرة. وشخصية
- "جبران" هي رمز للوجه الثقافي للعراق الذي بهت بريقه وانطفأ. كل شخصية هي خيط في نسيج
- سردي محكم، يوضح كيف أن الخراب لم يكن سياسياً واقتصادياً فحسب، بل امتد ليضرب جذوره في
- العلاقات الإنسانية
والاجتماعية.
قلب الرواية
لكن قلب الرواية النابض ومركز ثقلها الرمزي هو "وادي الفراشات". هذا المكان، الذي يكتشفه عزيز بالصدفة، هو مقبرة مخصصة لدفن الأطفال اللقطاء، مجهولي الهوية والنسب. هنا، تصل الرواية إلى ذروة قسوتها وشاعريتها في الوقت نفسه. الوادي ليس مجرد مقبرة
- بل هو جغرافيا الألم المطلق، ومستودع الأرواح التي لم تُمنح فرصة للحياة، وهوامش المجتمع الذين
- وُلدوا وماتوا دون اسم أو اعتراف. في هذا المكان، يكتشف عزيز "دفتر الأرواح"، ويبدأ في تدوين
- أسماء لهؤلاء الضحايا الصغار، في محاولة رمزية لمنحهم هوية بعد الموت، وتحدي النسيان الذي
- فرضه عليهم المجتمع.
الواقعية السحرية
وهنا، يلجأ أزهر جرجيس إلى لمسة من الواقعية السحرية التي تميز أسلوبه. فمن قبور هؤلاء الأطفال، تتصاعد فراشات مضيئة في الليل، كأنها أرواحهم الطاهرة التي تحررت أخيراً من قسوة العالم. هذه الصورة الفانتازية لا تهدف إلى التخفيف من وطأة الواقع بقدر ما تعيد تعريفه
- فهي فعل مقاومة جمالي ضد القبح، وإعلان بأن الأرواح البريئة قادرة على خلق الجمال حتى من قلب
- الموت والظلام. تتحول المقبرة من مكان لليأس المطلق إلى فضاء للأمل الخافت، وللتصالح مع فكرة
- الموت كشكل من أشكال الخلاص.
الختام
«وادي الفراشات» ليست مجرد قصة عزيز، بل هي مرثية طويلة لجيل وأمة. إنها رواية عن الآلام التي لا تُقال، وعن الأمهات اللاتي يبكين بصمت، وعن الأطفال الذين يُدفنون كأسرار. بأسلوبه الساخر الذي يجعل القارئ يبتسم بحرقة، ينجح جرجيس في تعرية واقع أكثر عبثية من أي خيال.
إنها رواية تؤكد
على أن الأدب الحقيقي هو الذي ينحاز للمهمشين، ويمنح صوتاً لمن لا صوت لهم، ويدعو
إلى إعادة النظر في السرديات الكبرى التي تتجاهل القصص الصغيرة، تلك القصص التي
تشكل في مجموعها الذاكرة الحقيقية للأوطان.