recent
أخبار ساخنة

**النزوة والنص: في جدلية الإبداع الحقيقي والكتابة العابرة**

 

**النزوة والنص: في جدلية الإبداع الحقيقي والكتابة العابرة**

 

تعتبر الكتابة فعلاً إنسانياً فريداً، متشابكاً في تجلياته وتفاعلاته، وغالباً ما تكتنفه أبعاد تتجاوز المتوقع والمألوف، مما يضفي عليها طابع الاستثنائية والعمق. هذا السر الكامن في جوهرها هو ما يجعلها عصية على الفهم الكامل أو التفسير النهائي، مهما امتلكنا من أدوات نقدية أو حساسية فنية. فالكتابة، في ماهيتها، تتأسس على التعدد وتحكمها غايات وخلفيات توجه بوصلتها وتحدد منطلقاتها. ولكن، كيف تتجلى الكتابة في أبهى صورها، وما هي المحددات التي ترسم ملامح هذا التجلي؟


تعتبر الكتابة فعلاً إنسانياً فريداً، متشابكاً في تجلياته وتفاعلاته، وغالباً ما تكتنفه أبعاد تتجاوز المتوقع والمألوف، مما يضفي عليها طابع الاستثنائية والعمق. هذا السر الكامن في جوهرها هو ما يجعلها عصية على الفهم الكامل أو التفسير النهائي، مهما امتلكنا من أدوات نقدية أو حساسية فنية. فالكتابة، في ماهيتها، تتأسس على التعدد وتحكمها غايات وخلفيات توجه بوصلتها وتحدد منطلقاتها. ولكن، كيف تتجلى الكتابة في أبهى صورها، وما هي المحددات التي ترسم ملامح هذا التجلي؟
**النزوة والنص: في جدلية الإبداع الحقيقي والكتابة العابرة**

إن التجلي الأسمى للكتابة يكمن في "النص" الأدبي أو الفكري. ولكي يرتقي المكتوب إلى مصاف "النص" الحقيقي، لا بد له أن يمتثل لمجموعة من المحددات والمقومات الجوهرية التي تمنحه هويته، وتجعله واضح المعالم في الاشتباكات الفكرية والثقافية التي ينتجها. النص الأصيل هو كيان مستقل، له القدرة على التجاوز والحياة، حتى بمعزل عن مبدعه أو اللغة التي صيغ بها في الأصل. فما هي هذه المقومات التي يستمد منها النص أسس بنائيته الخاصة؟

**أولاً مقومات النص الخالد**

 

حدد الفكر النقدي المعاصر أربعة أعمدة رئيسية تقوم عليها "نصية" النص وقدرته على البقاء والتأثير:

 

1.  **التجاوز (Transcendence):** يشير هذا المفهوم إلى بنية المفارقة التي يستبطنها النص ذاتياً. فالنص الحقيقي لا يحقق وجوده الفعلي إلا بمفارقة السياقات الظرفية التي ولد ضمنها، بما في ذلك ذات المبدع الذي أنتجه. يرتكز هذا التجاوز على قدرة النص على تأسيس وجوده الخاص، المستقل والحر، محققاً استثنائيته ليس فقط في تجاوره مع النصوص الأخرى، بل وفي تجاوزه لسياق الخطاب المباشر الذي انبثق منه، ليخلق سياقه النصي الخاص به، القابل للتأويل المستمر.

 

2.  **العبورية (Transmissibility/Permeability):** وتعني هذه الخاصية قدرة النص الفائقة على العبور والانسياب السلس بين اللغات والثقافات المتعددة، مع الاحتفاظ التام بعمقه الإبداعي وخصوصيته الجمالية والفكرية. النص العابر هو ذاك الذي لا تفقده الترجمة جوهره، ولا يحدّ من تأثيره اختلاف الأطر الثقافية للمتلقين، بل يظل قادراً على الإقامة والتفاعل المنتج ضمن ثقافات مغايرة، مهما طالت إقامته وتعددت تجلياته.

 

3.  **الاشتباكية (Interconnectedness/Engagement):** تتجلى هذه المقومة في قدرة النص على بناء تفاعلات ديناميكية ومتعددة الأوجه مع كافة أشكال المعرفة الإنسانية، ومع كل سياق إنساني يستدعي "الإنساني" كأفق للتفاعل والاحتضان. النص الاشتباكي يستحضر الأبعاد المؤسسة للإنسانية، ويؤسس لها إيجابياً ضمن بنيته، جاعلاً منها فعلاً يقظاً ومحفزاً باستمرار على التأمل والحوار، متجاوزاً الحواجز المصطنعة بين الحقول المعرفية.

 

4.  **الإبداعية (Creativity/Originality):** وهي قدرة النص على بناء وجوده الإبداعي المتفرد والمستمر، وعلى تأسيس علاقة حية ذات أبعاد متعددة مع فعل القراءة. هذه العلاقة لا تضعف بتغير القارئ، أو زمن القراءة، أو المناهج النقدية المطبقة. النص المبدع يمتلك قوة كامنة على "الإدهاش" كفعل مهمازي، يحفز المتلقي باستمرار، ويفتح أمامه آفاقاً جديدة للتأويل والفهم، محافظاً على راهنيته وقدرته على إنتاج المعنى.

 

**ثانياً النزوة الكتابية ومآلاتها**

 


**النزوة والنص: في جدلية الإبداع الحقيقي والكتابة العابرة**

إذا كانت هذه هي المقومات التي تحدد نصية النص ووجوده الراسخ،

 فكيف تتحدد "النزوة الكتابية" كفعل قد يوازي الكتابة ظاهرياً، ولكنه في جوهره يشوش على مسار النص الحقيقي ويضلل الطريق إليه؟ يمكن تمييز النزوة الكتابية عبر تجلياتها في المكتوب، والتي تقف على النقيض من مقومات النص الآنفة الذكر:

 

1.  **التماهي القسري والمفتعل (Forced and Artificial Identification):** يتمثل هذا في التداخل المفرط وغير الواعي بين النص وذات الكاتب، لدرجة يغيب فيها النص كبنية مستقلة لها أسسها ومقوماتها الفنية. في هذه الحالة، تحضر ذات الكاتب بكل أعطابها النفسية، وانشغالاتها الآنية، وأحياناً أمراضها الاجتماعية، بشكل فج ومباشر. هذا الحضور الطاغي للذات لا يثري النص، بل يجعله مرآة ضيقة لأحوال شخصية، ويقتل إبداعيته وقدرته على التجاوز والاشتباك الأوسع.

 

2.  **الوعي المغيب (Absent/Suppressed Consciousness):** يتجلى هذا الغياب في عدم إدراك الذات الكاتبة لعمق فعل الكتابة، ومقوماتها الجوهرية، وحدودها الفنية. الكاتب الذي يقع أسير النزوة قد لا يدرك الفرق بين الإنشائية السطحية التي تكتفي بسرد الخواطر أو الانفعالات الآنية، وبين الإبداعية الحقة التي تتطلب وعياً بموهبة الذات، وسعياً دؤوباً لتطوير هذه الموهبة، وأخذها بوعي ومسؤولية نحو تجاوز كل ما يثبطها أو يوقفها عن صيرورة التجديد والتجدد.

 

**خاتمة نحو وعي نقدي مؤسس**

 

في المحصلة، يمكن القول إن التمييز بين الكتابة التي ترقى إلى مستوى "النص" وتلك التي لا تتعدى كونها "نزوة كتابية" يتطلب حاجة نقدية واعية.

 هذا الوعي يتأسس على فهم دقيق للحدود الممكنة بين النص ذي المقومات البنائية والجمالية الراسخة، وبين النزوة كفعل طارئ، قد يكون له دافعه اللحظي، ولكنه يظل عاجزاً عن تأسيس "النصية" الحقيقية في المكتوب. إن السعي نحو الإبداع الخالد يمر حتماً عبر تجاوز النزوات العابرة، والالتزام الواعي بمقومات النص التي تضمن له القدرة على البقاء والتأثير والحوار الممتد عبر الأجيال والثقافات.


**النزوة والنص: في جدلية الإبداع الحقيقي والكتابة العابرة**



author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent