**تحت سماء يهودا: لحظة تأمل عند غروب الشمس**
في بقعة نائية من العالم، حيث تتشابك خيوط
التاريخ العريق مع قسوة الطبيعة البكر، وقف رجل يُعرف باسم سيكاريوس. لم يكن مجرد
وقوف عابر، بل لحظة تأمل عميقة، بدأت بفعلٍ رمزي: إطفاء هاتفه المحمول. لم يكن ذلك
مجرد قطع للاتصال التكنولوجي، بل كان بمثابة انسحاب واعٍ من ضجيج الحاضر، وانغماس
كامل في السكون المهيب للمكان والزمان.
![]() |
**تحت سماء يهودا: لحظة تأمل عند غروب الشمس** |
عالم بعيد
بيدٍ ثابتة، أطفأ سيكاريوس الجهاز، وكأنما يغلق نافذة على عالمٍ بعيد، ليفتح حواسه كلها على المشهد البانورامي الذي امتد أمامه.
ألقى نظرة أخيرة، مطولة، نحو يمينه. هناك، انبسطت أمامه صحراء يهودا بمساحاتها الشاسعة، لوحة تضاريسية قاسية ومهيبة، تتخللها تدرجات ألوان الأرض من البني الفاتح إلى الأصفر المغبر. وفي قلب هذه اللوحة القاحلة، لمعت بقعة زرقاء داكنة، كجوهرة لازوردية فريدة وسط محيط من الرمال والصخور: البحر الميت.
- لم يكن مجرد مسطح مائي، بل كان شاهداً صامتاً على آلاف السنين، يحمل في مياهه المالحة أسراراً
- وحكاياتٍ عن حضارات قامت واندثرت. بدت زرقته الساكنة، تحت ضوء الشمس الآفلة، كعينٍ عميقة
- تتأمل
السماء.
تغير التضاريس
ثم تحولت نظراته ببطء نحو اليسار، حيث تغيرت التضاريس بشكل درامي.
هناك، انتصبت سلسلة من الجبال، حادة الملامح، شاهقة القمم. نحتت
عوامل الزمن في صخورها أخاديد سحيقة ومنحدرات وعرة، ترسم خطوطاً قاسية وقوية تحف
الوادي الممتد أسفلها. بدت هذه التشكيلات الجيولوجية كحراس صامتين للوادي، وقد
اكتست صخورها بألوان دافئة بفعل أشعة الشمس المتراجعة، مضيفةً عمقاً وبعداً آخر
للمشهد. كانت سلسلة الجبال والأخاديد بمثابة إطار طبيعي للوحة الصحراوية، تجمع بين
الصلابة والجمال الخشن.
- وكان سيد المشهد، بلا منازع، هو قرص الشمس وهو يتدلى نحو الأفق الغربي. لم يكن غروباً عادياً
- بل كان عرضاً ضوئياً سماوياً أخاذاً. انسكبت الألوان البرتقالية النارية والبنفسجية الملكية على صفحة
- السماء، وتمازجت لتخلق لوحة متغيرة باستمرار، بديعة التفاصيل. كانت الشمس منخفضة جداً، تكاد
- تلامس قمم الجبال البعيدة، وهذا الانخفاض هو ما منح الظلال قوة وحضوراً غير
عاديين.
أرض قاحلة
والظلال الطويلة الممتدة، التي كانت ترسمها الشمس المنخفضة، لم تكن مجرد ظلالٍ عادية. كانت هذه الظلال تمثل الأثر الشبحي، البقايا غير المرئية تقريباً، للمعسكرات الرومانية التي حاصرت هذا التل ذات يوم في غابر الأزمان. رسمت الشمس الخطوط الخارجية لهذه المعسكرات القديمة على الأرض المتربة.
- فبدت وكأنها نقوش باهتة لمتاهات مستطيلة
- تذكير صامت بقوة الإمبراطورية التي بسطت نفوذها هنا
- وبالمقاومة اليائسة التي واجهتها. كان الماضي يلقي بظلاله
- حرفياً ومجازياً، على الحاضر.
امتزج الجمال الطبيعي الخلاب مع الثقل التاريخي
للمكان ليخلقا جواً فريداً. كان المنظر مذهلاً بكل المقاييس، مشهداً يفيض بالجمال
الخام، الجمال الذي يوحي بأن قوة إلهية قد باركت هذه الأرض، رغم قحطها الظاهري
ووعورتها. لم يكن الجمال يكمن فقط في الألوان والأشكال، بل أيضاً في السكون الذي
خيم على المكان.
الصمت
كان الصمت مطبقاً، عميقاً، يبعث على الطمأنينة والرهبة في آن واحد. بالكاد كان يُسمع همس الريح الخافتة، نسيم عليل يهب من الشمال، يحمل معه برودة المساء المبكر ورائحة الأرض الجافة. وفي هذا الصمت، برز صوت آخر، رقيق وحزين: زقزقة طيور السنونو التي كانت تحوم بأناقة فوق التل
- وكأنها تؤدي رقصة وداعٍ لنهارٍ ينتهي
- أو ربما كانت تردد صدى أرواحٍ سكنت هذا المكان يوماً.
- كانت زقزقاتها بمثابة موسيقى تصويرية رقيقة لهذا المشهد العظيم
- تضيف لمسة
من الحياة الهشة إلى هذا الصرح الطبيعي والتاريخي الشامخ.
الختام
وقف سيكاريوس هناك، متوحداً مع المشهد، يتنفس
عبق التاريخ الممزوج بنقاء الطبيعة، محاطاً بالجمال والصمت، بينما كانت الشمس تكمل
رحلتها الأخيرة خلف الأفق، تاركةً وراءها سماءً ملونة وظلالاً تحكي قصص الماضي
السحيق. لقد كانت لحظة من الصفاء المطلق، وفرصة للتأمل في دورة الحياة والموت،
وصمود الطبيعة أمام تعاقب الحضارات وزوالها.
