**"بعيد الغروب": ستيفن كينغ يعود ليُشرق على عوالم القصة القصيرة ببراعة متجددة**
في بانوراما الأدب العالمي المعاصر، يتربع اسم
ستيفن كينغ على عرش السرد القصصي الذي يمزج بين الرعب العميق والتشويق النفسي
والاستكشافات الميتافيزيقية، مقدمًا لقرائه تجارب فريدة تتجاوز حدود النوع الأدبي.
وتأتي مجموعته القصصية البارزة، **"بعيد الغروب" (Just After Sunset)**، لتؤكد من جديد
على هذه المكانة الرفيعة، ممثلةً عودته المنتظرة إلى فن القصة القصيرة بعد ست
سنوات من صدور مجموعته السابقة المشهود لها، "كل شيء أخير" (Everything's Eventual). إن هذه المجموعة ليست مجرد إصدار جديد، بل هي بمثابة نافذة
مشرعة على تطور رؤية كينغ الإبداعية وقدرته المتجددة على نسج عوالم تأسر القارئ
وتستفز تأملاته.
![]() |
**"بعيد الغروب": ستيفن كينغ يعود ليُشرق على عوالم القصة القصيرة ببراعة متجددة** |
بعيد الغروب
تضم "بعيد الغروب" كوكبة من القصص المتنوعة في مضامينها وأطوالها، إلا أنها تشترك جميعًا في البصمة الكينغية المميزة: الغوص في أغوار النفس البشرية، واستكشاف المخاوف الكامنة، وطرح الأسئلة الوجودية الكبرى.
من بين هذه الأعمال، تبرز قصة **"ن." (N.)**، وهي واحدة من أطول قصص المجموعة وأكثرها إثارة للجدل الإيجابي. لم تكتفِ هذه القصة بالبقاء حبيسة الصفحات المطبوعة، بل اكتسبت بُعدًا حيويًا وتفاعليًا جديدًا عندما تم تحويلها مؤخرًا إلى سلسلة رسوم غرافيكية رقمية نابضة بالحياة
- مكونة من خمس وعشرين حلقة مصورة، مما أتاح لجمهور أوسع التفاعل مع عوالمها المعقدة. وتعتبر
- "ن." إضافة فريدة للمجموعة، حيث تُنشر للمرة الأولى ضمن هذا الكتاب، مما يمنح القراء فرصة
- اكتشافها في سياقها الأصلي.
المجموعة
تتجلى في المجموعة أيضًا اهتمامات كينغ الفلسفية العميقة، لا سيما فيما يتعلق بالحياة بعد الموت، وهو موضوع يتناوله بجرأة ورقة في آن واحد.
ففي قصة **"ويلا" (Willa)**، التي تتمتع بخصائص خيالية آسرة، يمنح كينغ نفسه والقارئ فرصة لتخيل ما قد يحدث – أو لا يحدث – بعد انطفاء شعلة الحياة. هذا التساؤل يتردد صداه أيضًا في قصة أخرى ضمن المجموعة، **"نيويورك تايمز بسعر تفاوضي" (The New York Times at Special Bargain Rates)**.
- يعلق كينغ على هذا التوجه قائلاً: "أننا جميعاً نبقى بعد الموت. من المحزن أن مثل هذه الكائنات المعقدة
- والرائعة في بعض الأحيان تُبدَّد ببساطة في نهاية المطاف... وأفضل رجاء عندي هو أن يبقى الحب
- حتى بعد الموت (أنا رومانسي، فلتُقاضوني)...". هذا الاعتراف الصريح يكشف عن جانب إنساني
- عميق في كتابات كينغ، حيث يتجاوز الرعب السطحي ليلامس أوتار المشاعر الإنسانية الخالدة.
ولا تقتصر براعة كينغ على الموضوعات الكبرى، بل تمتد لتشمل قدرته على استلهام قصص كاملة من مواقف حياتية بسيطة أو أخبار عابرة. فقصة **"فتاة هاربة" (The Gingerbread Girl)**، على سبيل المثال، تطورت من صورة ذهنية أولية بسيطة للغاية: "رجل شرير يلاحق فتاة على امتداد شاطئ فارغ".
- لكن عبقرية كينغ تكمن في إضافة طبقات من التعقيد، حيث يوضح: "لكنني فكرت – يقول المؤلف –
- بأنها هاربة من شيء ما أولاً. ومن هنا جاء العنوان". هذا التحول البسيط يفتح آفاقًا واسعة للسرد
- ويضفي على القصة عمقًا نفسيًا وتشويقًا متصاعدًا.
قصة أبكم
أما قصة **"أبكم" (Mute)**، فتقدم مثالاً آخر على كيفية تحويل كينغ لخبر صحفي إلى عمل أدبي مثير للتأمل.
بعد قراءته لخبر عن سكرتيرة اختلست مبلغًا كبيرًا للعب اليانصيب، كان السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهن كينغ هو: "عن شعور زوجها حيال هذا الأمر". ومن هذا التساؤل، نسج قصة تستكشف التداعيات العاطفية والنفسية لمثل هذا الحدث على العلاقات الإنسانية.
- ويصف كينغ هذه القصة بأنها "تذكرني بالبونبونات (سكاكر) السامة التي كنت آخذها أسبوعياً كعيِّنات
- أثناء مشاهدتي برنامج 'ألفرد هيتشكوك يقدِّم'"، في إشارة إلى قدرتها على الجمع بين الجاذبية
- الظاهرية والمحتوى المقلق.
قصة أيانا
وتأخذنا قصة **"أيانا" (Ayana)** إلى منطقة أكثر شخصية وحميمية، حيث يستلهم كينغ أحداثها من تجربته المروعة مع الحادث الذي كاد يودي بحياته عام 1999.
يتأمل كينغ في هذه القصة مفهوم "المعجزة" والقدر، والخط الرفيع الذي يفصل بين الحياة والموت. يقول: "إذا نجا المرء، فإننا نقول 'هذه أعجوبة'. وإذا مات فنحن نقول 'هذه مشيئة الله'. لا يوجد فهم منطقي للأعاجيب... لكن الأعاجيب تحدث... كل نَفَس أعجوبة أخرى".
- لا يسعى كينغ هنا لتقديم إجابات شافية، بل يفضل "الكتابة حول الأسئلة، والإيحاء بأن الأعاجيب قد
- تكون عبئاً إضافة إلى كونها نعمة. ولعلها تكون هراء فارغاً. لكنني أحب القصة". هذا الصدق الفكري
- والفني هو ما يميز أعمال كينغ ويجعلها تتردد في وجدان القراء.
إن قدرة ستيفن كينغ على تحويل العادي والمألوف
إلى بوابات نحو عوالم غرائبية ومخيفة، أو حتى مؤثرة بشكل غير متوقع، هي سمة أساسية
في أسلوبه. فمن غيره يستطيع أن يحول "حجرة مرحاض متنقلة إلى ولادة لزجة، أو
مقهى بجانب الطريق إلى مكان لحبّ أبدي؟". هذه المقدرة على رؤية الاستثنائي في
العادي هي جوهر عبقريته السردية.
- يُضاف "بعيد الغروب" إلى قائمة طويلة من أعمال ستيفن كينغ الخالدة التي أثرت المكتبة العالمية
- مثل "كريستين"، "اللحظة الأخيرة"، "فصول متنوعة"، "بؤس"، و"الهارب". وقد تجاوز تأثيره
- حدود اللغة الإنجليزية، حيث تُرجمت رواياته إلى 36 لغة، وباعت أكثر من 300 مليون نسخة حول
- العالم، مما يجعله ظاهرة أدبية وثقافية عالمية.
في الختام
تعد مجموعة "بعيد الغروب" شهادة
جديدة على موهبة ستيفن كينغ الفذة وقدرته على التجدد والإبهار. إنها دعوة للقراء
لاستكشاف تلك المنطقة الرمادية بين الواقع والخيال، بين النور والظلام، حيث تتجلى
أعمق مخاوفنا وأسمى آمالنا، وكل ذلك بأسلوب سردي فريد يجمع بين الإمتاع الفني
والعمق الفكري.