## "كشتبان": رحلة أم مصرية نحو ترميم الذات واكتشاف الهند بعيون مغايرة

يحظى أدب الرحلات بمكانة راسخة في التراث الثقافي العربي، إذ شكّل الارتحال هاجسًا شعريًا وسرديًا عبر العصور. من الناقة كرفيقة سفر أيقونية في الشعر الجاهلي، إلى مدونات الرحالة العظام أمثال ابن بطوطة، كانت الرحلة وسيلة للمثاقفة، واكتشاف العوالم الأخرى، وتوسيع الوعي بالذات والآخر. ورغم امتداد هذا التقليد الأدبي في العصر الحديث، إلا أنه ظل، في معظمه، حكرًا على الرجال الذين سمحت لهم الأعراف الاجتماعية بحرية التنقل والتعبير عن تجاربهم.

في هذا السياق، يأتي كتاب "كشتبان: الأم التي طارت" للكاتبة والمترجمة المصرية أميمة صبحي، الصادر عن "دار العين" بالقاهرة، ليقدم إضافة نوعية ومنظورًا مغايرًا لأدب الرحلات العربي المعاصر. لا يقتصر الكتاب على كونه توثيقًا لرحلة مكانية، بل هو شهادة إنسانية عميقة تخترق فيها الكاتبة القواعد النمطية، مقدمةً تجربة فريدة لأم مصرية "عزباء" تخوض غمار السفر في الهند الشاسعة بصحبة طفليها الصغيرين، "عالية" و"نوح".

تتخذ الرواية بنية سردية خطية

تتبع مسار الرحلة التي استمرت لأسابيع عبر مدن هندية متنوعة، بدءًا من نيودلهي، مرورًا بجراكبور، وفارناسي، وكلكتا، وبوبانسوار، وتشيناي، وكوتشي، ومونار، وشاطئ تشيراي، وجايبور، وأجرا، وانتهاءً بالعودة إلى نيودلهي. لكن هذه الخريطة الجغرافية ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي جزء لا يتجزأ من رحلة داخلية أكثر تعقيدًا وعمقًا.

منذ اللحظة الأولى في المطار، تواجه الكاتبة أسئلة متكررة تعكس الذهنية السائدة حول استقلالية
المرأة وقدرتها على تحمل مسؤولية السفر منفردة مع أطفالها ("أين الزوج؟ هل أنتم بمفردكم؟")،
وهي أسئلة تتجاوز الحدود لتكشف عن تحدٍ ثقافي واجتماعي تواجهه الأم العزباء ليس فقط في
مجتمعها، بل في سياقات أخرى أيضًا.

تتميز رحلة أميمة صبحي

بسعيها الدؤوب نحو التجربة الحقيقية والمعايشة الأصيلة،

بعيدًا عن مسارات السياحة التقليدية ومخططاتها الجاهزة. تنغمس الكاتبة في تفاصيل الحياة اليومية الهندية، تستخدم وسائل النقل المحلية، تتجول في الأزقة والحواري، تحتك بالناس العاديين، بل وتقضي أيامًا في بيت ريفي بأجرا، لتلامس واقع الفلاحين الهنود، هي ابنة المدينة الصاخبة. هذا الاحتكاك المباشر يتيح لها تقديم صورة بانورامية حية للهند، بتعددها الديني والثقافي المدهش، وبشرها الذين تتأرجح بين التعامل مع طيبتهم ومحاولات النصب التي تواجهها بذكاء وخفة ظل، متصالحة مع فكرة أن هذه الظواهر جزء من الطبيعة البشرية في كل مكان.

لا يقتصر الكتاب على الوصف الحسي للأماكن والأشخاص، بل يتضمن بعدًا معرفيًا لافتًا. فبين ثنايا
السرد الشخصي، تقدم الكاتبة معلومات تاريخية وثقافية عن المعالم التي تزورها (كالحصن الأحمر
وهوا محل)، أو عن صناعات معينة (كتاريخ صناعة التوكتوك)، أو حتى عن شخصيات سياسية
(مثل أنديرا غاندي). يثري هذا البعد المعرفي النص ويمنحه قيمة مضافة تتجاوز مجرد الانطباعات
الشخصية.

لكن الأهم من ذلك كله

هو المسار الموازي للرحلة الجغرافية: رحلة ترميم الذات وإعادة اكتشاف الروابط الأسرية.

تعترف الكاتبة بأن ضغوط الحياة اليومية كأم عاملة عزباء في القاهرة ربما تكون قد خلقت فجوات بينها وبين طفليها. لذا، يصبح السفر فرصة ثمينة ليس فقط لاكتشاف العالم الخارجي، بل لاكتشاف الذات وإعادة بناء الجسور مع الأبناء. تقول: "كل موقف صعب نمر به، يتبعه سد شقٍ بيننا، لنعود مرة أخرى وحدة واحدة". تصبح الرحلة بمصاعبها وتحدياتها وجمالياتها، مختبرًا حقيقيًا للعلاقة، تتيح للأم أن ترى طفليها بعين جديدة، وتتيح لهما بدورهما التعرف إليها بعيدًا عن ضغوط الروتين اليومي.

يتجلى هذا البعد في عنوان الكتاب "كشتبان"، تلك الأداة المعدنية الصغيرة التي تحمي الأصابع. يصبح
الكشتبان هنا رمزًا متعدد الدلالات: فهو الحماية التي تحتاجها الأم من ضغوط الأمومة، وهو الدرع
الذي يرتديه أفراد الأسرة الصغيرة ليحميهم من تحديات العالم الخارجي أثناء رحلتهم المشتركة نحو
الالتئام. إنه استعارة بليغة لعملية "الترميم" التي تخوضها الأسرة.

في الختام

يمثل "كشتبان: الأم التي طارت" إضافة قيمة لأدب الرحلات العربي،

ليس فقط لتقديمه تجربة أنثوية خالصة تتحدى القوالب الجاهزة، بل لنجاحه في المزج بين متعة استكشاف المكان وعمق الغوص في الذات الإنسانية وتعقيدات العلاقات الأسرية. إنه كتاب عن الهند، وعن الأمومة، وعن البحث عن الذات، وعن القدرة على التحليق مجددًا بعد الانكسار، لتنتهي الرحلة بشعور بالخفة والسعادة والالتئام، بعد أن تم سدّ التصدعات وترميم الشقوق في رحلة مكانية ونفسية وعائلية بامتياز.

أفكار الثقافة وألآدب

## "كشتبان": رحلة أم مصرية نحو ترميم الذات واكتشاف الهند بعيون مغايرة