recent
أخبار ساخنة

الريح لا تستثني أحداً: رحلةٌ في أعماق الذاكرة والهشاشة

الصفحة الرئيسية

 

 

الريح لا تستثني أحداً: رحلةٌ في أعماق الذاكرة والهشاشة

 

تُقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار في عملها "الريح لا تستثني أحداً" رحلةً سرديةً غنيةً بالرمزية والغموض، تُغوص في أعماق الذاكرة البشرية، وتستكشف هشاشة الإنسان أمام قوة الطبيعة وقسوة الحياة..


الريح لا تستثني أحداً: رحلةٌ في أعماق الذاكرة والهشاشة
رحلةٌ في أعماق الذاكرة والهشاشة

"الريح لا تستثني أحداً" هي مُتتالية قصصية، تتكون من سلسلة من القصص القصيرة المُكثفة، تُشكل معاً لوحةً سرديةً متكاملة. يرتكز معمار العمل على فن القصة القصيرة، إلا أن دائرة السرد لا تكتمل سوى بتوالي الأحداث التي تتشارك فضاء الحدث.


 

تلعب الريح في هذه المتتالية

 دورًا رئيسيًا، حيث تُمنحها الكاتبة سلطة غاشمة وسحرية. تُصبح "الريح" رمزاً للقدر، للضياع، ولتقلبات الزمن. يقف البشر أمامها كأشخاصٍ هشّين، عاجزين عن مواجهة سطوتها.

  •  
  • تُمثل "ليلة الريح الأولى" الحدث المركزي
  •  الذي تظل تبعاته الكابوسية تلاحق أهالي القرية،
  •  وتُجلب معها الأهوال.
  •   فجأةً، لا يعودون قادرين على تذكر ما جرى ليلتها،
  •  في تلميح مبكر لما يحمله تشوّش الذاكرة من لعنة.

 

ثم سرعان ما تُصبح "الرائحة"

 عنصرًا أساسيًا في تشكيل الأجواء، حيث تُهيمن رائحة "طاغية لا مثيل لها" على فضاء القرية بعد تلك الليلة. هذه الرائحة لها خواص غرائبية، فلا تشمها النساء، بينما تُزكم أنوف الرجال. يُصبح ظهورها واختفاؤها بعد ذلك دليلًا على التغييرات التي أحدثتها الريح في أجوائها، والسطور التي خطّتها ومحتها.

 

  1. لا تختفي تلك الرائحة سوى بمولد طفلين بعد 9 أشه
  2. ر من تلك الليلة. يُصبحان "طفلي الريح"،
  3.  حاملي سر الأم التي اختفت في سنوات طفولتهما الأولى.
  4.  فصاحتهما المبكرة وظروف نشأتهما الغريبة
  5.  تجعلهما يُوصفان بـ"المبروكين". 

 

يمتد تأثير "طفلي الريح" عبر المتتالية القصصية، حيث يُقطعان دروباً تأملية في اقتفاء الحكمة، وتلمّس النبوءة، وأسرار الكلمات.  يُصبحان قبلة لأهل القرية من "السائلين"، الذين تُخرجهم الريح من رقودهم، لتوقظ داخلهم الألم، والشعور العارِم بالذنب.

 

**قلوب مثقوبة:**

 

تتفرع حكايات المتتالية عبر 3 فصول رئيسية:  "الرجل الذي تكلّم ثم صمت" و"الرجل الذي سيُحب التجوال"، و"الفتاة التي لم يعرف أحدٌ اسمها".  تُواصل الحكايات تقاطعها مع ثيمات العمل الرئيسية، وأبرزها الفقد والانتظار

 

"الرجل الذي تكلّم ثم صمت" يُظلّ، مع تقدمه في العمر، يتوّسل "طيف" أمه التي غابت في طفولته.  تظلّ حيثيات غيابها مُغبشة ومثيرة لتوالد الحكايات، بما يزيد من عزلته واغترابه

 

تُظلّ "الريح" على مدار المُتتالية هي صاحبة السطوة السردية. السرد يبدأ بها، ثم تباغت أهل القرية مرة أخرى مع نهاياته، لتترك الحياة بينهما وبعدهما غارقة في الهشاشة

 

لا تترك "الريح" البشر عُراة

من أسمالهم فحسب، بل تُكشف عن ندوبهم الغائرة، لا سيما تلك التي تسكن الأمهات.  يبدو ثمة آصرة بين الرجلين أبناء الريح وبين أمهات القرية المكلومات، الباحثات عن رتق لـ"قلوبهن المثقوبة" بفقد أبنائهن.  تبدو لعنة أمهم الغائبة، أو الأم "الأولى"، وكأنها تُلاحق أمهات القرية من بعدها، متوسلات أن يرشدهم أحد لأبنائهن ويمتص ملوحة قلوبهن.

  •  
  • يُصف "الرجل الذي سيُحب التجوال"
  • جرح الأمومة باعتباره الألم الوحيد المستعصي
  •  "أُعد وصفات لأهالي القرية طوال 13 عاماً،
  •  وصفات حلّت أحوالهم المعقدة، أعد قلباً صلصالياً،
  •  ومسحوقاً للنسيان، ودواءً للحقيقة،
  •  أعد أدوية لكل من طلب، لكنه الآن يعجز أمام الأمهات
  •  اللاتي أردن استرداد أبنائهن ذوي العيون الرمادية،
  •  السوداء، البنية، الزرقاء، الخضراء الصغيرة". 

 

تتردد هذه الفكرة على مدار المتتالية، بتراوحات فنية تفيض من رحم الأمومة، وتعود أدراجها له من جديد في قصة أم أخرى.

 

**اختلاط الزمن:**

 

تشتق المُتتالية القصصية، التي حازت جائزة الشارقة للإبداع العربي، من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي.  ينهل العمل من الحكايات وقوة تأثيرها، واللعب بالكلمات.  نرى رجلاً أصابته لعنة اللغة، ولكنه للمفارقة، كلما كان "يفقد حرفاً زادت كلماته وزادت فصاحته".

  1.  
  2. تشتق المتتالية من مفردات البيئة البدائية دلالات بلاغية.
  3.  نجد الكلمات تندفع كـ"العواصف الرملية".
  4.  يمكن فهم ذلك ضمن اجتراح العمل لإيقاعه وقوانينه الخاصة.
  5.   فالمكان، برغم تأطيره الظاهر بحدود القرية والصحراء،
  6.  فإنه سيّال، يفيض على هامش الواقع وفي عمق المُخيلة.

 

"المنامات" مكان للقاء الأحبة، والصحراء مكان لابتلاعهم.

  أما الزمن فيُفتته السرد في سعي لتوظيف دلالته وأثره على أبطاله.  نجد هناك: "زمن الصمت، زمن الكلام، زمن الانتباه، زمن الانتظار...".  فالزمن يختلط كالكوابيس، ويفقد أفقيته المنطقية وواقعيته وهو يعود أدراجه معكوساً.  نرى الأبناء الذين يعودون أجنّة، والعيون تتحوّل لحُفر فارغة، وحتى نمش الوجوه يكبر ويصغر، وكأنه يحوم في مدار زمني معزول يخص سيرة أصحابه وحكاياتهم.

 

وفي حين تنحاز الكاتبة عائشة مختار للنزعة السحرية في بناء عالمها السردي، فإنها في الوقت نفسه تتلمس هُوية ذاتية تتقاطع مع الموروث الشعبي في كثير من محطات المُتتالية

 

تنتظر الشخصيات "الكرامات"

في مناماتهم، وتقطع المسافات من أجل الحصول على مشروب سحري يضمن لهم الحب، في استثمار لطاقات الغرابة في قواميس الوصفات السحرية الشرقية، التي تفيض برائحة "الأبخرة والأهازيج والتمائم


 

  • تُقدم هذه العناصر السحرية في العمل توّصلًا لأسئلة وجودية
  •  مؤرقة لدى أبطال المُتتالية،
  •  بداية من الموت، وحتى الحب، والنوم، والأحلام،
  •  والاستبدال، وأهوال الخطيئة
  •  

  1. يُجد هذا الأرق مُتنفسه في طرح الأسئلة
  2.  التي لا تخلو من غضب.
  3.  يتقمص الراوي صوت "الفتاة التي لم يعُد يعرف أحد اسمها"،
  4.  ويسأل:  "أما جمالها فما المغزى منه إذا كان قد حُكِم عليها بالتعاسة؟
  5.   والطيور التي حاولت أخذها إلى المجهول
  6.  لماذا لم تُحاوِل مرّة ثانية؟  والعدل أين اختفى!".

 

**الجمال في الهشاشة:**

 

تُقدم "الريح لا تستثني أحداً" تجربةً سرديةً مُثيرةً للتفكير، تُثير مشاعر الاندهاش والحزن، والغرابة.  تُبرز الكاتبة بأسلوبها السردي المُتقن، قدرة الإنسان على التماسك رغم المعاناة، والعيش مع الندوب التي تخلّفت عن تقلبات الحياة.

 

تُحاول الشخصيات في العمل التكيف مع واقعهم، وتُحاول فهم أسرار الريح التي تسيطر على حياتهم، والتي تُخلّف آثارها في وجوههم وذاكراتهم.  تُصبح الرحلة مع "الريح" رحلةً في أعماق النفس البشرية، رحلةً تُجبرنا على التساؤل عن ماهية الذاكرة، وعن هشاشة وجودنا، وعن القدر الذي لا يُمكننا هربه.

 

**الخلاصة:**

 

"الريح لا تستثني أحداً" عملٌ إبداعيٌّ مُتميّزٌ، يٌقدم للقارئ رحلةً سرديةً غنيةً بالرمزية، والغموض، والجمال.  تُحكي عائشة مختار بأسلوبٍ سلسٍ وكلماتٍ مُتقنة قصةً عن قوة "الريح"، وقوة الذاكرة البشرية، وقوة التماسك رغم الألم.

 

إنها قصةٌ تُجبرنا على التفكير، وعلى إعادة التفكير في كل ما نعرفه عن "الريح"، وعن أنفسنا

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent