recent
أخبار ساخنة

أبو العلاء المعري: هل كان رهين المحبسين متشائماً حقاً أم فيلسوفاً وجودياً؟

 

أبو العلاء المعري: هل كان رهين المحبسين متشائماً حقاً أم فيلسوفاً وجودياً؟

قسم: عظماء

يظل أبو العلاء المعري (363 - 449 هـ / 973 - 1057 م) أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ الأدب والفكر العربي. فمنذ قرون، التصقت به وصمة "التشاؤم المطلق"، واعتُبر شعره مرادفاً لليأس واجتواء الحياة. لكن، هل تعكس هذه الصورة النمطية حقيقة "فيلسوف المعرة"؟ أم أننا نسيء فهم رؤيته الوجودية العميقة لعدم قدرتنا على مواجهة الحقائق العارية التي طرحها؟

  • في هذا المقال، سنقوم بتحليل فلسفة المعري من منظور جديد، مستندين إلى نصوصه الشهيرة وسيرته الذاتية، لنكتشف الفرق بين "التشاؤم النفسي" و"الموقف الوجودي البطولي".
قسم: عظماء يظل أبو العلاء المعري (363 - 449 هـ / 973 - 1057 م) أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ الأدب والفكر العربي. فمنذ قرون، التصقت به وصمة "التشاؤم المطلق"، واعتُبر شعره مرادفاً لليأس واجتواء الحياة. لكن، هل تعكس هذه الصورة النمطية حقيقة "فيلسوف المعرة"؟ أم أننا نسيء فهم رؤيته الوجودية العميقة لعدم قدرتنا على مواجهة الحقائق العارية التي طرحها؟  في هذا المقال، سنقوم بتحليل فلسفة المعري من منظور جديد، مستندين إلى نصوصه الشهيرة وسيرته الذاتية، لنكتشف الفرق بين "التشاؤم النفسي" و"الموقف الوجودي البطولي".
أبو العلاء المعري: هل كان رهين المحبسين متشائماً حقاً أم فيلسوفاً وجودياً؟

أبو العلاء المعري: هل كان رهين المحبسين متشائماً حقاً أم فيلسوفاً وجودياً؟


المعري وسؤال الوجود قراءة في دالية غير مجدٍ

تعتبر دالية المعري الشهيرة التي نظمها في رثاء الفقيه "أبو حمزة التنوخي" مدخلاً رئيسياً لفهم فلسفته. في هذه القصيدة، لا نجد بكاءً تقليدياً، بل نجد تقريراً لواقع كوني:

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي .. نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

هنا، يضع المعري "النوح" و"الترنم" في كفة واحدة. هذا ليس تشاؤماً بالمعنى الضيق، بل هو موقف تعادلي. يرى المعري أن الموت هو الحقيقة الكبرى التي تتساوى أمامها كل الانفعالات البشرية. فالبشر صائرون إلى التراب الذي يمشون عليه، وكما قال في بيته العبقري:

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ .. أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

هذا الوعي بارتباط الإنسان بالأرض ليس دعوة للموت، بل هو دعوة للتواضع وإدراك مآلات الوجود.

التناقض الظاهري كيف عاش المتشائم حياة حافلة؟

إذا كان المعري متشائماً يائساً، فكيف نفسر حياته التي امتدت لأكثر من ثمانين عاماً؟ وكيف نفسر إرثه الأدبي والفلسفي الضخم الذي لم ينقطع تأثيره لألف عام؟

1. الإنتاجية المعرفية الفائقة

عاش المعري في عصر مضطرب سياسياً واجتماعياً، وكان ضريراً منذ طفولته، ومع ذلك أنجز ما عجز عنه المبصرون. ألف "لزوم ما لا يلزم" (اللزوميات)، و"سقط الزند"، و"رسالة الغفران". هذه الغزارة في الإنتاج تعكس حيوية عقلية جبارة لا تتسق مع شخصية مستسلمة لليأس.

2. الزهد الإرادي لا القسري

لم يكن اعتزال المعري للناس (رهين المحبسين: محبس العمى ومحبس البيت) نتاج كراهية، بل كان اختياراً فلسفياً للتحرر من قيود المادة وصراعات السلطة. لقد فرض على نفسه "لزوم ما لا يلزم" في شعره وفي حياته (مثل نباتية الغذاء)، مما يدل على إرادة حديدية وسيطرة كاملة على الذات.

الفارق بين التشاؤم والموقف الوجودي

يرى الباحثون المعاصرون أن المعري لم يكن متشائماً بقدر ما كان وجودياً قبل الأوان. التشاؤم عادة ما يقترن بالقعود والكسل الذهني، أما المعري فقد كان "يقظاً" بامتياز.

  • الوعي بالعبث: أدرك المعري أن الحياة تنتهي بنقيضها، وأن الموت يجلل الوجود.
  • شمولية الفناء: لم يحصر رؤيته في الإنسان وحده، بل مدها إلى الكون. ففي شعره نجد ذكراً لزحل والمريخ والثريا، مؤكداً أن الفناء قانون كوني يشمل الكواكب كما يشمل البشر.
  • البطولة الفكرية: تكمن بطولته في عيش حياته وفق "اعتقاده"؛ فهو لم يخدع نفسه بآمال زائفة، بل واجه الحقيقة بشجاعة اللبيب الذي "ليس يغتر بكون مصيره للفساد".

البعد الاجتماعي والانساني في فلسفة المعري

خلافاً لما يظنه البعض من أن المعري كان "عدواً للبشر"، نجد في شعره نزعة إنسانية وتكافلية رفيعة. هو القائل:

وَالناَسُ لِلناَسِ مِن بَدْوٍ وَحاضِرَةٍ .. بَعضٌ لِبَعضٍ وَإِن لَم يَشعُروا خَدَمُ

هذا البيت يختصر فلسفة اجتماعية متقدمة تؤمن بالاعتماد المتبادل بين البشر. كما عرف عنه رفضه للظلم واستشرافه لمفاهيم العدالة الاجتماعية. إن رفضه للخلد الفردي إذا لم يعم الجميع (كما في قوله: فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي.. سحائبُ ليس تنتظم البلادا) يعكس روحاً تضامنية لا تجتمع مع روح المتشائم المنكفئ على ذاته.

لماذا نصرّ على تسميته متشائماً؟

يرى المقال أن وصف المعري بالتشاؤم هو وسيلة دفاعية نستخدمها نحن الأحياء لنتجنب مواجهة الحقائق التي طرحها. إننا ننعته بالسوداوية لنبرر انشغالنا بـ "الترنم والشدو" ولنهرب من سؤال المصير.

  • المعري لم يطلب منا أن نحزن، بل طلب منا أن نعقل. لقد كان "نكدياً" بالمعنى الجميل؛ أي الشخص الذي يرفض السطحية ويدعوك للغوص في عمق المعنى، حتى لو كان ذلك العمق مؤلماً.

الخاتمة المعري فيلسوف الصدق العاري

إن أبا العلاء المعري لم يكن متشائماً، بل كان فيلسوفاً واقعياً بامتياز. لقد جرد الحياة من ثياب الزينة والادعاء، وواجه الحقيقة دون مسكنات. إن بقاء ذكره وصمود فلسفته لألف عام هو الدليل الأكبر على أن فكره لم يكن وليد لحظة يأس، بل نتاج رؤية كونية شاملة.

في عالمنا المعاصر المليء بالضجيج والزيف، تظل فلسفة المعري منارة لمن يبحث عن "الصدق الوجودي"، ولمن يجرؤ على النظر في مرآة الحقيقة دون وجل.



 

هل أعجبتك هذه القراءة؟ شاركنا برأيك: هل ترى في المعري فيلسوفاً يبعث على التأمل أم شاعراً يدعو لليأس؟

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent