قاهرة النسيان: رحلة البحث عن الهوية في مدينة الألف وجه
في قلب القاهرة الصاخب
وعلى أعتاب تحولات سياسية واجتماعية كبرى، تدور أحداث رواية "قاهرة النسيان" للكاتب والمترجم المصري المقيم في باريس، خالد عثمان.هذه الرواية، التي صدرت طبعتها العربية المترجمة عن المركز القومي للترجمة ضمن سلسلة "الإبداع القصصي"، لا تقدم مجرد حكاية، بل تغوص في أعماق مدينة شديدة التعقيد والتناقض، وتطرح أسئلة جوهرية حول الذاكرة والهوية والانتماء من خلال رحلة بطلها الاستثنائية.
| قاهرة النسيان: رحلة البحث عن الهوية في مدينة الألف وجه |
عودة إلى المجهول حبكة درامية مثيرة
تستهل الرواية أحداثها بعودة مصري مهاجر إلى مسقط رأسه، القاهرة، بعد سنوات طويلة أمضاها في أوروبا. لكن هذه العودة لا تكون بداية لذكريات دافئة أو لمّ شمل، بل تتحول إلى كابوس مفاجئ. فبعد وقت قصير من وصوله، يتعرض البطل لصدمة غامضة تفقده وعيه، وحين يفيق، يجد نفسه في فراغ تام؛ ذاكرة ممحوة بالكامل، وهوية ضائعة لا يملك أي دليل مادي لاستعادتها.
من هنا، تنطلق رحلة البطل المزدوجة
رحلة في شوارع القاهرة وأزقتها وميادينها المزدحمة، ورحلة أخرى
أشد صعوبة في أغوار ذاته المنسية، محاولًا تجميع شظايا هويته المفقودة. هذا
الفقدان الدرامي للذاكرة ليس مجرد أداة سردية، بل هو مدخل فلسفي عميق لفهم علاقة
الإنسان بالمكان، وكيف تتشكل هويته من خلال تفاعله مع محيطه الاجتماعي والجغرافي.
القاهرة الشخصية المحورية والمدينة المتناقضة
تتحول القاهرة في "قاهرة النسيان" إلى ما هو أبعد من مجرد مسرح للأحداث؛ إنها شخصية محورية، حية، ونابضة بالتناقضات. يقدمها خالد عثمان كمدينة مخيفة وجذابة في آن واحد، فهي تعج بالحياة وتمتلئ بنوع من الفوران الصاخب الذي يميزها، ولكنها في الوقت نفسه قد تكون قاسية ومنفرة.
يصور الكاتب ببراعة
كيف أن العلاقات الاجتماعية المتشابكة وقسوة الظروف الاقتصادية لا تمنع نشوء روابط إنسانية ومجتمعية حارة ودافئة. يتجول القارئ مع البطل فاقد الذاكرة في أماكن تحمل دلالات رمزية كبرى، على رأسها ميدان التحرير، الذي كان يشهد في تلك الفترة مظاهر الاحتقان السياسي الذي سبق اندلاع ثورة 25 يناير 2011.
رصد دقيق لمصر ما قبل الثورة
لا تكتفي الرواية بالسرد الشخصي لرحلة البطل، بل تقدم بانوراما واسعة للمجتمع المصري في فترة حساسة من تاريخه الحديث. يرصد العمل بذكاء ملامح الاحتقان السياسي، وقضايا مصادرة الحريات الشخصية التي كانت تمارسها بعض التيارات الدينية التي بدأت تتخذ موقع الصدارة في المشهد العام، خاصة مع اقتراب اندلاع التظاهرات الكبرى.
بهذا المعنى، تصبح رحلة البطل في البحث عن هويته الفردية مرآة لرحلة مجتمع بأكمله كان يبحث عن هويته ويواجه حالة من عدم اليقين قبيل تغييرات جذرية ستعيد تشكيل وجه البلاد.
خالد عثمان صوت مصري في الأدب الفرانكفوني
"قاهرة النسيان"
هي الرواية الأولى للكاتب خالد عثمان، وقد كتبها في الأصل باللغة الفرنسية تحت
عنوان "Le Caire à corps
perdu" وصدرت عام 2011. ولد خالد عثمان في
القاهرة ونشأ وتلقى تعليمه في فرنسا، مما منحه منظورًا فريدًا يجمع بين رؤية ابن
البلد وعين المغترب. هذا المنظور المزدوج يتجلى بوضوح في الرواية، حيث يقدم
تأملات عميقة في العاصمة المصرية بعيون تحمل حنينًا ونقدًا في آن واحد.
إلى جانب كونه روائيًا،
يُعرف خالد عثمان كمترجم أدبي بارز، حيث نقل العديد من أعمال كبار الكتاب العرب
إلى الفرنسية، وعلى رأسهم نجيب محفوظ وجمال الغيطاني، وقد نال العديد من الجوائز
في مجال الترجمة.له رواية ثانية بالفرنسية بعنوان "اليمامة والعصفور" (La colombe et le moineau) صدرت
عام 2016.
ترجمة متميزة لسحر سمير يوسف
لعبت المترجمة سحر سمير يوسف دورًا حيويًا في إيصال هذا العمل الهام إلى القارئ العربي. فبفضل ترجمتها الدقيقة والسلسة، استطاعت أن تحافظ على الروح الأصلية للنص ورؤية الكاتب، وتنقل ببراعة الأجواء القاهرية المعقدة التي رسمها عثمان بقلمه. وقد صدرت النسخة العربية عن المركز القومي للترجمة، وهو ما يؤكد القيمة الأدبية للعمل وأهميته في المشهد الثقافي.
خاتمة رواية لا تُنسى عن مدينة لا تُنسى
في نهاية المطاف، "قاهرة النسيان" هي أكثر من مجرد رواية عن فقدان الذاكرة. إنها عمل أدبي يقدم تشريحًا عميقًا لمدينة القاهرة، ويكشف عن طبقاتها المتعددة، من سحرها الخفي إلى خذلانها المؤلم. إنها رواية عن الاغتراب والعودة، عن البحث المحموم عن الذات في عالم يموج بالمتغيرات، وعن العلاقة الجدلية بين الفرد والمدينة التي تشكله بقدر ما يشكلها.
من خلال بطلها التائه، يدعونا خالد عثمان إلى طرح أسئلتنا الخاصة حول
الذاكرة والهوية، ويؤكد أن البحث عن الذات قد يكون أحيانًا هو السبيل الوحيد لفهم
العالم من حولنا.