## "ما تلا الحبر": رحلة استكشاف الذات بين ضباب الذاكرة وسطوة الحروف

في عالم الأدب العربي المعاصر، حيث تتشابك الخيوط السردية لتعكس تعقيدات النفس البشرية وتقلبات القدر، تتجلى رواية "ما تلا الحبر" للكاتبة كنزي تامر كنسيج روائي فريد، يغوص في أغوار الذاكرة المفقودة ويستنطق صمت الرسائل بحثًا عن حقيقة ضائعة وحب مؤجل. تقدم الرواية طرحًا دراميًا مشوقًا، يتخذ من الفقدان المفاجئ للذاكرة نقطة انطلاق لرحلة استثنائية نحو الماضي، لا عبر استرجاع مباشر للأحداث، بل من خلال بوابة الحبر وعبق الأوراق القديمة.

## "ما تلا الحبر": رحلة استكشاف الذات بين ضباب الذاكرة وسطوة الحروف

بداية الحكاية

تبدأ الحكاية بحدث مفصلي يقلب حياة بطلها "يونس" رأسًا على عقب:

حادث مروع يمحو تاريخه الشخصي، تاركًا إياه في حالة من الضياع التام، كصفحة بيضاء تنتظر من يخط عليها هويتها من جديد. عودته إلى بيته، الذي يفترض به أن يكون ملاذًا للألفة والذكريات، تتحول إلى مواجهة مع الفراغ، فراغ لا تملؤه إلا علامات الاستفهام حول ذاته وعلاقاته ومن كان عليه قبل أن تبتلعه هوة النسيان.

في خضم هذا التيه، يقع يونس على اكتشاف يمثل بصيص أمل وخيطًا رفيعًا
يربطه بماضيه المجهول: صندوق عتيق يحتضن بين دفتيه مجموعة من الرسائل.

ليست مجرد أوراق

هذه الرسائل ليست مجرد أوراق، بل هي شذرات من حياة لم يعد يذكرها،

مرسلة من "تاليا"، الفتاة التي، كما يبدو من دفء الكلمات وعمق المشاعر المتدفقة بين السطور، شاركته لحظات استثنائية ونسجت معه حكاية حب عميقة. تصبح هذه الرسائل نافذته الوحيدة على عالمه المفقود.

المرآة التي يحاول من خلالها لملمة شظايا هويته المنكسرة. تتكشف الحكاية عبر سرد مزدوج: حاضر
يونس المشوش والمثقل بالأسئلة، وماضٍ يتشكل تدريجيًا عبر كلمات تاليا، بدءًا من أولى لحظات
تعارفهما، مرورًا بذكريات مشتركة نسجت بعناية، وصولًا إلى اعتراف مؤثر خطته أناملها بعد غيابه
المفاجئ – الغياب الذي سبق حادثه الأليم وأفقده ذاكرته.

إشكالية الهوية

هنا، تطرح الرواية إشكالية الذاكرة والهوية بأسلوب مبتكر.

هل يمكن للكلمات المكتوبة أن تعيد بناء إنسان؟ هل ما نقرأه عن أنفسنا في عيون الآخرين، أو في هذه الحالة، في حروفهم، هو بالضرورة حقيقتنا الكاملة؟ تصبح رحلة يونس عبر الرسائل ليست مجرد بحث عن معلومات، بل هي عملية إعادة تشكيل للذات، محفوفة بالترقب والأمل والخوف. كل رسالة هي قطعة من أحجية معقدة، وكل كلمة قد تحمل في طياتها مفتاحًا لذاكرة مغلقة أو سرًا دفينًا.

تتعمق الرواية في استكشاف ثيمات الحب والفقد. حب يونس وتاليا، الذي يبدو من خلال الرسائل نقيًا
وعميقًا، يصطدم بجدار النسيان الصلد. هل يمكن لهذا الحب أن يولد من جديد في قلب رجل لا يذكر
حتى وجه حبيبته؟ وماذا عن مشاعر تاليا التي كُتبت في لحظة غياب ولوعة، هل ستمثل ليونس عبئًا
أم دافعًا للمضي قدمًا؟ يتجلى الفقد بأوجه متعددة: فقدان الذاكرة، فقدان الحبيب (من منظور تاليا عند
كتابة الرسائل)، واحتمالية فقدان الصورة المثالية للماضي إذا ما كشفت الرسائل عن حقائق مرة.

الكاتبة

تضعنا كنزي تامر أمام السؤال الجوهري الذي يتردد صداه عبر صفحات الرواية: هل ستكون هذه الرسائل بلسماً شافياً يعيد ليونس ماضيه الجميل وحبه المفقود، أم أنها ستفتح صندوق "باندورا" ليكتشف حقائق مؤلمة،

ربما عن نفسه أو عن تاليا أو عن طبيعة علاقتهما، حقائق قد يكتشف أنه كان يفضل لو بقيت طي النسيان؟ هذا التوتر بين الرغبة في المعرفة والخوف مما قد تحمله، هو المحرك الأساسي للصراع الداخلي لدى يونس وللتشويق الذي يلف أحداث الرواية.

الختام

"ما تلا الحبر" تعد بأن تكون أكثر من مجرد قصة رومانسية تقليدية؛ إنها غوص نفسي في معنى الوجود عند فقدان الذاكرة، وتأمل في قوة الكلمة المكتوبة كسجل للعاطفة وشاهد على الزمن. هي رحلة عبر ممرات الروح، حيث تصبح الحروف مرآة للقلوب، تعكس ما كان، وتتساءل عما يمكن أن يكون. بأسلوبها الذي يمزج بين العاطفة والغموض والبحث عن الحقيقة.

تدعو الرواية القارئ ليشارك يونس رحلته الفريدة، متسائلًا معه عند كل منعطف: أي مصير ينتظر ما يتلو هذا الحبر؟

أفكار الثقافة وألآدب

## "ما تلا الحبر": رحلة استكشاف الذات بين ضباب الذاكرة وسطوة الحروف