إن مفهوم الضوء ينطوي على حدين ، أحدهما مجرد ، والآخر مادي ، أما المجرد فيظهر في الفكر والفلسفة ، وهو إدراك مباشر دون براهين تجريبية للمعاني العقلية ، مثل إدراك المكان والزمان على أنهما نهائيان في وجود الضوء بعناصره المكونة له ، أما المادي فيتجسد في وجوده للعيان وهو الإدراك المباشر للمحسوسات ، مثل إدراك اللون والضوء المنعكس عن الأشياء ، سواء أكان على مستوى التطبيق أم النقل المجرد ، أي في إعادة التركيب ، وإن حاصل جمع المجرد والمادي يؤدي إلى الرؤية ، التي نتعرف من خلالها على الأشياء التي تلتقي في الحركة لتتخذ معاني جديدة .
وكتاب " مفهوم الضوء والظلام ـ في العرض المسرحي " تأليف جلال جميل محمد ، ومراجعة الدكتورة نهاد صليحة ، الصادر من الهيئة العامة للكتاب ، يتناول الضوء كموضوع يستطيع أن يستخلص بدقة متناهية روح صورته الدقيقة من شبكة الظروف التي تحدها ، ثم يعيد تجسيدها في ظروف فنية اختيرت كأدق ما يكون لها من تأثير في وظيفتها الجديدة ، ولا يكتفي الكتاب بطرح التطورات النظرية في الضوء ومفاهيمها ، بل يلاحقها في لحظة اشتغالها فلسفياً على العرض ، ويقابل بينها على مستويات متعددة ، مضيئاً كل مقترب بما يشابهه أو يخالفه ، ومحاولاً في الوقت نفسه تقديم مفهوم يتابع التفصيلات الدقيقة دون أن يغفل الانتباه إلى أن الاختلاف والتباين في الآراء جميعاً ، إقرارات حية تنطق بالحقيقة ، ويؤكد أن ثمة اتصالاً حقيقياً أو رابطاً ضمنياً يجمع بين تلك الآراء المتضاربة ، ولعل الأدل على ذلك ما قاله أفلاطون : " إن الحق لم يصبه الناس في وجوهه كلها ، ولا أخطؤوه في وجوهه كلها ، بل أصاب منه كل إنسان جهة " فهذا هو المفهوم الذي توضع في إطاره افتراضاتنا جميعها ، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة ، إنها تتعامل بالدرجة الأولى مع المعاني ، ومع مفهوم ما يعرض .
وتتجلى أهمية الكتاب في تعزيز تقنية الضوء بمفاهيم فلسفية ، تبحث في جوهر الضوء قبل تكوين الصورة وبعده ، عبر فلسفة الصورة في الضوء والظلام متضمنة الألوان وعناصرها : كثافة وتشعباً وقيمة وسطوعاً ، من خلال آلية معينة ، وبعد تكوينها باعتبارها تحمل شكلاً وفكراً ومعنى . كما تكمن أيضاً أهمية الضوء في اعتماده الصورة لغة يخاطب من خلالها الممثل والمشاهد ، ليبسط عمليات التحول في الشكل واللون والتخيل والتأويل ومعانيها ، بحيث تدرك بسهولة .
والكتاب يحتوي على توطئة ومقدمة وثلاثة فصول ، أما التوطئة فتفتح باباً صغيراً وبسيطاً على كيفية الدخول إلى معضلات البحث الفلسفي وربطها بالضوء للخروج بمفهوم جديد يشكل توجهاً فنياً جديداً ، ويبين الباحث في الفصل الأول المشكلة التي يتعرض فيها لمفهوم الضوء على المستويين المادي والشكلي " المجرد " ، وأيهما يتفاعل مع الضوء ويحقق تأثيره ، وإذا ما تحقق ذلك ، الزمان بكيفيته في تصريفاته الثلاثة ـ ماض وحاضر ومستقبل ـ والمكان بكمه في الحجوم والمساحات والأبعاد وعلاقاتها الترابطية ، فعل تجاه حركة الضوء ، أم أن فعل الضوء تجاهها يحققها في ضوء حساب معضلات الشكل واللون ، بالاعتماد على التفسيرات العلمية والفنية له والجمع بينها ، واضعاً اليد على المشكلة ألا وهي: كيف يقدم مفهوماً فلسفياً للضوء في العرض المسرحي المنجز ؟
يهدف جلال جميل إلى فتح آفاق معرفية جديدة للدارسين في كليات الفنون الجميلة ومعاهدها ، وللعاملين في مجال الضوء بالمسرح والتليفزيون والسينما ، في الوطن العربي والعالم ، كما يهدف إلى إيجاد مفهوم جديد للضوء في العرض المسرحي ، عبر مرجعيات معرفية ، وفلسفية ، وجمالية ، وإدراكية ، لإبراز مركزيته في العرض ، ويناقش الكتاب مجموعة من المصطلحات التي ترد في متنه سواء في أبنية الضوء المعرفية ، أم في الضوء والتكوين البصري ، وبخاصة تلك التي تمارس فيها بشكل مستمر فيه ، ويورد المؤلف من خلالها تعريفاً إجرائياً ًلكل مصطلح ، معتمداً عليه في تحليله ، وذلك لضرورتها ولعدم الخلط في المفاهيم .
ويتناول الفصل الثاني من الكتاب أبنية الضوء المعرفية ، من حيث الضوء في مثالية أفلاطون وأرسطو ، ودور الشمس ودلالتها في العرض المسرحي الإغريقي ، وثنائية الجوهر والعارض ، في ثبات الجوهر " الضوء " وتحولات العارض " الظلام " ، الذي بالإمكان أن يتحول إلى جوهر ـ تتحول الظلام إلى ضوء ـ ولكن الجوهر لا يمكنه أن يتحول إلى عارض ، لأنه مادة وجود . كما يدرس هذا الفصل الضوء في المفهوم الديني المسيحي في العصور الوسطى ، حيث يتعرض لمفهوم الضوء الباطني " الداخلي " عند المسيحية متمثلاً نور الشمس وحركتها ، بوصفه نوراً داخلياً يشع ليهدي الإنسان إلى الطريق الصحيح ، ويبعده عن طريق الخطأ ، وأن الله يحرك الأشياء وهو لا يتحرك ، والفلسفة هي الحكمة ، والحكمة هي الكلمة ، والكلمة قد تجسدت على صورة مسيح ، وهذه الكلمة هي الحياة ، والحياة هي النور ، والنور لم يأت إلا مع المسيحية ، التي تدرك الجواهر ، وتلك الجواهر يدركها الحس واحدة بعد أخرى بوصفها عوارض ، وقد حملت هذه الفترة مفهوم الفترة الإغريقية نفسه ، في أن الضوء جوهر والظلام عارض ، وكيف انتقل هذا المفهوم إلى العرض المسرحي داخل الكنيسة وخارجها .
وأيضاً تناول الفصل المفهوم المثالي الذاتي الديكارتي والهيجلي للضوء ، ويتعرض إلى المركز واللا مركز في الضوء عند جاك دريدا ورينيه توم . فيعتبر ديكارت الضوء مادة وجود ، وهذا عكس الفكر ، فالمادة لا تفكر ، لكنها تحتل حيزاً في المكان ثلاثي الأبعاد ، تتمدد أو " تتشكل فيه " ، وتنطبق عليها الميكانيكا لإمكانية حركتها في زمان طبيعي ، ويزودنا الضوء بإحساسات متطابقة مع التجربة البصرية ووجود الضوء ، مع وجود منظومات تكوينية أخرى مثل التباين والتضاد والانسجام والتوافق والتطابق والتشابه والتكرار والاستمرارية ، وكلها تسهل عملية الإدراك ، بينما ينطلق هيجل من العقل للوصول إلى أعلى معرفة ، وهي المطلق ، ويرد المطلق بثلاث صيغ : الفن/المعرفة ، الدين/ التأمل ، الفلسفة / الفهم ، ويتم ذلك بالتمييز بين ماهيات مادية مثل الضوء ، وماهيات صورية من مثل الامتداد " الشكل " .
ويوضح الباحث أن اللا مركز عند جاك دريدا يلتقي مع المركز عند رينيه توم من خلال فلسفة الغياب التي تنطلق من أن في الذات جانباً سرياً ، لا يحضر في الوعي ولا يمكن تمثله ، ويبقى في غياب دائم ، وهي عكس فلسفة الحضور عند أفلاطون وأرسطو وديكارت وهيجل ، والتي تعتمد حضور الوعي ، ومن الغياب إلى الآخر المغاير تماماً لما في المركز ، بدفع كلمات ذات معنى مزدوج مثل : الضوء / الظلام ، تحمل في داخلها طاقة خلخلة وتفكيك ، حيث إنها كانت ذات معنى واحد لعصور طويلة ، ومن خلال عناصر العرض الأخرى التي تمثل الآخر " ألوان ، ديكور ، أزياء ، مكياج … إلخ ".
أما الفصل الثالث فإنه يقسم مفهوم " الظلام ـ الضوء " في التكوين البصري إلى مقدمة في العلامة الضوئية وثلاثة مباحث هي : الضوء والشكل ، ويتطرق فيه المؤلف إلى تأثيرات الضوء على الشكل ومركزيته فيه ، سواء بالانطلاق منه بوصفه مركزاً ، أم جذبه للعناصر الأخرى في نقطة الجذب (س) المفترضة ، وقسم الشكل فيه إلى جزأين ، الأول مادي والثاني شكلي ، والذي هو محط الدراسة والبحث والتقصي ، ويدرس علاقات عناصر الضوء من كثافة ، ولون ، وسطوع ، وقيمة ، وتباين ، بعضها مع بعض ، وتأثيراتها على الأشكال .
والمبحث الثاني يوجد علاقة بين التخيل والتأويل ، من خلال التصور باعتباره صيغة تكثيف ، وذلك لإمكانية تركيب الماضي في المستقبل عبر الآني في العرض المسرحي ، بوجود حقلي التخيل الماضي والحاضر عن طريق محفزات دورية تتمثل في الأشكال فوق خشبة المسرح ، ويكشف عن قيام الضوء والظلام بتضييق دائرة التأويل بتكثيفها لدى المشاهد ، وذلك لقدرة الضوء على اختزال الأوصاف المحددة للصور .
والمبحث الثالث يقدم تأثير الضوء على الأشكال وكيفية تحول بنياتها ، من خلال عناصر الضوء ما في بنيات المكان والزمان والشخصية وطريقة أدائها ، والملابس والماكياج والجو والأحداث والفضاء ، ليصل المبحث إلى مؤشرات الضوء بوصفه مركز انطلاق الأشكال كلها فوق الخشبة .